يلف سماء تونس جو متلبد، و غموض و توتر شديدين بعد الإعلان عن عزل 57 قاضيا و القائمة مرشحة لتطال شخصيات من مجالات أخرى. الخبر نزل كالصاعقة على هيأة القضاة الذين دخلوا في إضراب مفتوح بأسبوع و قابل للتجديد. و يأتي هذا في ظرف تستعد فيه البلاد لإقامة إستفتاء شعبي يوم 25 جويلية القادم، وهو يوم يتزامن مع الذكرى السنوية لعيد الجمهورية و الذكرى الأولى للإعلان عن مسار سياسي جديد من طرف الرئيس سعيد.
بقلم ياسين فرحاتي
ومع تواصل المطالب بتأجيل الاستفتاء نظرا لعدم جهوزية الهيأة الجديدة للانتخابات و تضاعف أصوات الرافضين له و لسان حال العديد من التونسيين يردد لسنا في حاجة إلى دستور جديد بل المشكل هو في عدم تحقيق العدالة الإجتماعية و غياب التنمية و الحوكمة الرشيدة و تغييب الأحزاب السياسية بعد حل البرلمان و تجميده هذا علاوة طبعا على الضغوط الدولية المتصاعدة من يوم إلى آخر و على أكثر من صعيد بسبب عدم وضوح رؤية الرئيس الحالي و تعنته الشديد فحتى العديد من مناصري و مساندي مسار ال25 من جويلية هم اليوم من أشد المعارضين و الناقدين له و يصبون جام غضبهم على الرئيس لأنه لا يستمع إلا إلى نفسه و حفنة من رجال القانون الذين لا يرون إلا ما يراه هو و يتجاهل بعض الأصوات الأخرى التي يفترض أن يكون لها دور من بعض المفكرين و الأكادميين المرموقين و قد ورد هذا اللوم الشديد على لسان الدكتور يوسف الصديق و الدكتور حمادي جاب الله و كلاهما يحاولان توجيه الرئيس سعيد و تقديم حلول له بغية مد يد العون عسى يتم إنقاذ المسار السياسي و الإقتصادي و الإجتماعي المتعثر جدا.
ضغوط دولية متصاعدة
منذ أيام قليلة وجهت لجنة البندقية و هي لجنة أوروبية إستشارية متكونة من خبراء و أكاديميين هدفها التطبيق الجيد للقانون الدستوري و العمل على نشر الديمقراطية من خلال مراقبة الانتخابات و تعد تونس عضوا فيها إنتقادات شديدة اللهجة للنظام الحالي حول المراسيم الرئاسية الأخيرة و تسمية أعضاء لجنة الهيأة العليا المستقلة للانتخابات و تسمية رئيسها الجديد بعدما تم عزل رئيسها الأسبق.
و قد كان رد فعل الرئيس شديدا مؤكدا أننا بلد مستقل و له سيادة و ليس من حق أحد التدخل في شؤوننا الداخلية حسب القانون الدولي. و لكن واقع الحال يقول أن التبعية الإقتصادية لصندوق النقد الدولي خصوصا و للبنك الدولي و الاتحاد الأوروبي تمنعنا من هامش التحرك الجدي و تجعلنا تحت قبضة هذه المؤسسات المقرضة.
و عودا على نفس اللجنة فإنه استنادا إلى رئيسة الدستوري الحر عبير موسي قد حصلت تجاوزات خطيرة من قبل حاكم قرطاج وهي نفسها قد راسلت اللجنة خلال الأشهر القليلة الماضية و قد وجه إليها رسايل صريحة. معارك الأستاذ سعيد مع أكثر من جهة داخلية و خارجية مستعرة و من غير الممكن أن يظفر بعدد جيد منها و ليس أدل على ذلك الإستشارة الوطنية الأخيرة التي منيت بخيبة أمل كبيرة و بفشل ذريع و لكن الرئيس يصر في أكثر من مناسبة على نقاط إيجابية عديدة فيها و هو يرى ما لا يراه كثيرون!
التجاوزات الخطيرة لحاكم قرطاج
اللجنة الاستشارية الجديدة لإعداد دستور جديد للبلاد برئاسة عميد أساتذة القانون الدستوري الصادق بلعيد هي محل جدل وطني واسع و شخص رئيسها يتعرض لهجمة شرسة ليس أبرزها على لسان الصحفي و الإعلامي من دار الصباح حاتم بلحاج الذي اتهمه بأنه هو من كتب دستور الرئيس زين العابدين بن علي وهو من يساند الدكتاتورية فبالأمس بن علي و اليوم سعيد.
نفس اللوم جاء أيضا على لسان عبير موسي و في وقفة احتجاجية أمام المحكمة الإدارية دعت إلى وقف الانتهاكات و التجاوزات القانونية و هي تكرر باستمرار أن إجراءات سعيد تستهدفها هي بالأساس و ترمي إلى إقصاءها سياسيا.
أخطر ما في تصريحات الدكتور بلعيد هو إعلانه عن نيته صراحة عن حذف عبارة “تونس دولة دينها الإسلام” و في رد على سؤال الصحفي إقبال الكلبوسي من نشرة أخبار الثامنة أكد أن “الدولة لا دين لها و أن الدين للشعب وهي عبارة تقنية” موجها سهام نقله لمن تلاعبوا بالدين و وظفوه في السياسة و يقصد بذلك حركة النهضة و رئيسها راشد الغنوشي و أعتقد أن هذه قد تفهم لدى عامة الشعب كحرب أو هجمة شرسة على الدين مما قد يعد تهديدا للمتدينين أو قد يقول البعض بأن فترة ما بعد الإعلان عن الدستور الجديد قد تستهدف الجوامع و المصلين مثلا مثلما كان في العهد السابق أي تضييقا للخناق عليهم.
أضف إلى ذلك مشكلة أهل القضاء كما ذكرنا في البداية وهو قطاع يعاني الويلات و الفساد الكبير و الحقيقة تقال يجب تطهيره وهي خطوة يراها عديدون لصالح الرئيس سعيد شرط أن يحسن توظيفها جيدا من أجل إرساء منظومة قضائية جديدة راشدة تخدم المواطن و تضمن حقوقه و تمكنه من أداء واجباته على الوجه الأكمل حتى لا تضيع مقدرات الشعب نتيجة عدم تلازم الحق و الواجب.
إتحاد الشغل أكد مجددا رفضه المشاركة في الحوار الوطني و هو حوار انتقائي بدعوى عدم التشاور معه منذ البداية و ما يعتبره هو تجاهلا له من الرئيس.
في المقابل أكد الإتحاد أنه لا يقف حجر عثرة في وجه برنامج الرئيس مبينا تأكيده على ضرورة الفصل بين ما هو سياسي و اقتصادي و اجتماعي. الحكومة على لسان الناطق باسمها وزير التشغيل صرحت أنها ستدخل في مشاورات و لقاءات مع المنظمة الشغيلة خلال الأيام المقبلة خشية من حدوث إضرابات يهدد بها الإتحاد من أجل إنتداب عمال الحضائر و تسوية وضعيات أخرى تتعلق باتفاقيات سابقة على علاقة بالزيادة في الأجور و الترقيات لكن الحكومة تعلل موقفها بأنها لا تنكرها لكنها تقر صراحة بأنها في ضانقة مالية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية المتواصلة و ارتفاع أسعار القمح و مشتقاته و كذلك المواد البترولية.
من هم مع الرئيس من منظمات و أحزاب قليلون جدا : تقف إلى جانبه عمادة المحامين في شخص رئيسها و عدد من المحامين يعارضونها بشدة و يرون في المشاركة في الهيأة الاستشارية الجديدة تكريسا للاستبداد و الدكتاتورية كما قررت المشاركة أيضا الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وحزب حركة الشعب أول مساند لمسار 25 جويلية و لكنه أيضا يلقي أيضا باللائمة على الرئيس لإخلاله بوعوده تجاه تجاه الشباب أصحاب الشهائد العليا المعطلين عن العمل و تحديدا من يعنيهم الفصل 38 و الذين تنكر لهم الرئيس هذا إلى جانب تفرده بالرأي. و يقف إلى جانبه أيضا حزب التيار الشعبي و كلاهما حزبان صغيران و حركة تونس إلى الأمام و الذي أبدى مؤخرا تحفظات إزاء الإجراءات الجديدة للرئيس التونسي.
جوهر الأزمة يكمن في الضائقة الاقتصادية و الاجتماعية
ما هو غير واضح لرئيسنا هو أن جوهر الأزمة يكمن في الضائقة الإقتصادية و الإجتماعية التي يمر بها الشعب التونسي وهو ما لا يحاول أن يتفهمه فحالة التضخم الكبير تمثلا في غلاء الأسعار مما حدا مؤخرا بالبنك المركزي إلى الترفيع في سعر الفائدة المديرية لتلافي أو التخفيف من هذا المأزق الخطير.
هذا إلى جانب قرارات جديدة بالترفيع في تعريفة شركة الكهرباء و الغاز و قد بررت وزيرة الطاقة و المناجم ذلك بأن 80 بالمائة من الكهرباء مصدرها الغاز الطبيعي و كذلك الترفيع في فاتورة شركة استغلال و توزيع المياة.
المواطن التونسي حقيقة مثقل بالديون و مشاكل جمة طافية على السطح و مشاريع اقتصادية تنتظر التنفيذ و حديث عن وعود استثمارية لا غير هذه هي الصورة المجملة و العامة للوضع في تونس حاليا و لا نملك عصا سحرية لتغييره بسبب غياب الرؤية الواضحة وغياب الكفاءة للمسؤولين الذين هم حول الرئيس و من يعينهم في المناصب الهامة من أسفل الهرم إلى أعلاه مثلما نسمع عن تعيين الولاة و المعتمدين الجدد.
و ثمة من يرى على سبيل المثال أن اللجنة الاستشارية الجديدة برئاسة الصادق بلعيد لا تفي بالغرض و لا تمثل أطيافا واسعة من الشعب بل دائما نجد نوعا من المحاصصة و ترضيات لأطراف معينة و قد تطرأ عليها تحويرات أخرى لتضاف أسماء جديدة و كان في تصوري أن تقع تمثيلية لأعضاء من 24 ولاية خصوصا فئة الشباب المثقف من مختلف التخصصات صلب اللجنة الاقتصادية و الاجتماعية و اللجنة القانونية.
إن مسار الإصلاح الوطني يجب أن يبدأ بالإعلاء من شأن الحوكمة و ترشيدها و القطع مع الولاءات و تمكين من لهم زاد معرفي ثري و متنوع و يحملون هم الوطن و يتحلون برفعة الأخلاق من تولي مناصب رفيعة في الدولة التونسية.
شارك رأيك