متى يتصرف بعض التونسيين بمثل ما عاينته عن المغاربة من انضباط في الطريق ومن التزام بنواميسه، ومن عناية خاصة بمظهر عربات التاكسي، و أشياء أخرى كثيرة عاينها الكاتب خلال زيارة إلى المغرب الشقيق ؟
بقلم فتحي الهمامي
في أحضان المغرب أمْضَيْتُ مؤخرا فترة من الزمن… ولا أحلى ولا أروع… كنت فيها ضمن فريق أوفدته إلى ربوع تلك البلاد ودادية إطارات المؤسسة العمومية التي انتسب إليها للاطلاع والسياحة.
هناك كانت الحافلة تطوي بنا المسافات طَيًّا من أجل إنجاز كامل برنامج الرحلة المعد سلفا واحترام مواقيته. كان منطلق البرنامج زيارة العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء ثم التحول إلى شقيقتها الإدارية الرباط ومن هناك إلى العاصمة التاريخية والروحية فاس لتستمر الجولة إلى كل من مكناس واحدة من المدن الملكية الأربع وشفشاون الأمازيغية وتطوان الأندلسية وآخر حبة العنقود كانت طنجة عروس البحرين : المتوسط والأطلسي.
المغرب نجح فيما نحن بصدد التعثر فيه
الرحلة كانت أكثر من ممتعة، اقترن فيها الاطلاع على تاريخ البلاد، معمارها والبعض من معالمها مع الترفيه والترويح عن النفس. وقد زاد في رونقها الترحاب والحفاوة الخاصتين التي حظينا بهما من قبل المغاربة والمحبة الصافية التي أظهروها تجاه التونسيين. إذ لم يكن يتوانى “المروكي” عن قول بعض الكلمات المنتقاة من اللهجة التونسية الخالصة مثل “برشة”… “يعيشك”… “يا مدلل”… وغيرها عند التعرف إليك أو لما يكتشف أنك تونسي. كلمات كان وقعها جميل في نفوس أعضاء الفريق، وكنا نطرب عند سماعها فكأنها موسيقى تونسية يترنم بها مغربي.
حول الزيارة لا أذيعكم سرا إن قلت انني لم أكن أنوي الكتابة عنها في الأول فهي خُصُوصِيةّ وشَخْصِيةّ لولا أن بعض ما شاهدت وعاينت هناك فرض علي في الحين إجراء مقارنات بينه وبين جانب من أحوال بلدي الخضراء تونس.
بسرعة ومنذ اليوم الاول انغرست في ذهني نبتة الكتابة، فاندفعت أنقر كما أتفق على لوحة مفاتيح هاتفي المحمول البعض من مظاهر الحياة اليومية لتلك البلاد أسجلها وأرسم ملامحها وبالتوازي كانت تهجم على مخيلتي صور من بعض المظاهر السلبية في بلادي جعلتني أتحسر عليها وعلى واقعها وفي الآن نفسه كنت أَغْبِطُ المغرب بما أنجز. فتلك البلاد، التي قصدتها من القيروان فاطمة الفهرية في القرن التاسع ميلادي لتؤسس في فاس جامعة القرويين، وإن لا تتميز عن بلدي في شيء من ناحية عمق الإرث الحضاري والثقافي أو ثراء المعالم التاريخية أو من ناحية تعدد المناظر الطبيعية الأخاذة، إلا أنها نجحت فيما نحن بصدد التعثر فيه أو الاخفاق في إنجازه خاصة من ناحية المظهر العام للمدينة وجودة الحياة اليومية للمواطن.
ففي المغرب وبمختلف المدن التي زرت لم أر اكتساح البلاستيك لفضائها العام كما يكتسحنا أو تكدس للقمامة في الأنهج بمثل ما تعاني منه صفاقس (مثلا) إذ من الواضح أنه انتصر عليهما وقهرهما وأضحى المتساكن هناك يعيش عموما في بيئة سليمة زادها رونقا المساحات الخضراء الممتدة على جوانب الطريق وفي الساحات العامة.
فما يثير الاهتمام في المغرب ما عاينته من انتشار لجيش جرار من عمال البستنة في كل بقعة وكل مكان من الأرض جنوده منكبون طوال اليوم على العناية بكل ما هو أخضر وتعهده. إنهم يُخضِّرون الأرض تخضيرًا كما علقت واحدة من مرافقينا.
ولا تسأل عن الشوارع ونظامها وبالأخص الرئيسي منها الذي يحمل غالبا إسم محمد الخامس. فهو في فاس مثلا فسيح وواسع وبالمثل الرصيف، تزينه على جانبيه أشجارا باسقة وقلما يعرف اكتضاضا أو اختناقا أو تسمع فيه أصوات المنبهات. أما وسطه فهو قبلة للمتجولين وموطنا للجالسين لسحر فضائه وروعته، الذي يتناغم فيه صفاء الماء مع اللون الأخضر.
اما في طنجة الرائعة فتغلبت الإرادة هناك على مشكل إيواء السيارات وتحررت الشوارع منها إذ تم بعث مرأب ارضي ضخم على طول الكورنيش الممتد لمسافة طويلة.
وما هو ضخم وعملاق بدات اليد المغربية تنجزه في وطن إدريس الأول فقد تعززت منظومة النقل الحديدي ومحطاتها البديعة بالقطار السريع (TGV) الرابط بين الدار البيضاء وطنجة مرورا بالرباط. وبعد أن أتم المغاربة بناء جامع ضخم وفخم بإسم الحسن الثاني بالدار البيضاء يتحدون به المحيط الأطلسي ويتفاخرون به أمام الزائرين الأجانب، شرعوا في إنجاز برج عملاق يحمل نفس الإسم بمدينة الرباط.
عقل حالم وذوق رفيع و روح تنم عن محبة للبلاد
هناك وراء كل ما أنجز عقل حالم وذوق رفيع وخاصة روح تنم عن محبة للبلاد وتطلع لإسعاد المتساكن.
وهنا في تونس نعاني من نتائج التدبير السيء والشغف بالربح السهل ما جعل مدينة صفاقس الجديدة – مثلا – فضاء أشبه بمقبرة للأحياء بعد أن كان فيما مضى مقبرة للموتى.
وفي المغرب وبفضل العناية والروح الخلاقة أضحت بعض جهاتها غير الساحلية مزدهرة تتقد نشاطا بل قبلة للسياح من انحاء العالم وهنا اذكر فاس وشفشاون كما مراكش. وشفشاون الأمازيغية الرابضة في أعالي جبال الريف صارت أنموذجا فريدا في استثمار جوانب شكلية من تراثها. فاللون الأزرق الذي كان في المنطلق طلاء خاصا يميز بيوتات المغاربة اليهود عن إخوتهم المسلمين الهارب كليهما من الاندلس، أعيد توظيفه بابداع وبصفة ذكية على واجهات المنازل وبعض أنهج المدينة القديمة فأضفى على المدينة جمالا وبهاء وصار لونها الرسمي.
والمدينة العربية في المغرب تُعَدُّ وجهة أساسية للزائر الأجنبي يدلف إلى أزقتها الضيقة وأسواقها العتيقة ليعيش أجواءها المشحونة بعبق التاريخ. وقد حافظت فاس وبالمثل المدن الأخرى بقوة على معالم ورموز القديم – يقال لها فاس البالي- وما يكتنزه من سحر وإبهار خاصة منها الانشطة الحرفية الأصيلة.
وفي صفاقس التاريخية – التي تأسست في القرن التاسع ميلادي- افتقدنا أنشطة حرفية تقليدية غير قليلة كانت من زينتها. أما معالمها وآثارها التاريخية الباقية على قيد الحياة منها سورها الجميل وجامعها العريق، هي كنوز لا تقدر بثمن لكنها بحاجة إلى أن ننفض عنها الغبار ليرجع إليها بريقها. وقد أراد بعض الغيورين على صفاقس في وقت من الأوقات (الثمانينات من القرن الماضي) أن يكون لها تقاليد سياحية عن طريق ضبط مسلك سياحي ينطلق من القصبة أو الرباط القديم الى مقهى الديوان ثم سيدي عمر كمون إلى برج النار ومن هناك إلى دار الجلولي والجامع الكبير وسوق الحدادين عبر سوق الربع وسوق الجزارين وسوق الصباغين.(1) ولكن ذلك الحلم تبخر بسرعة ولم ير النور أبدا، بل اصبح لبلاد “العربي” كما يطلق عليها تقاليد راسخة في نقص العناية بالنظافة والتعدي على طابعها المعماري الأصيل. فمتى يهب التونسيون لنجدة بلادهم، فهذا ليس بعزيز عليهم ؟
ومتى يتصرف بعض التونسيين بمثل ما عاينته عن المغاربة من انضباط في الطريق ومن التزام بنواميسه، ومن عناية خاصة بمظهر عربات التاكسي، فهذا أيضا ليس بعزيز عليهم ؟
(1) في 20 فيفري 88 نظمت جمعية صيانة المدينة يوم اعلاميا حول المسلك السياحي لفائدة حرفيي السياحة – أنظر صحيفة شمس الجنوب في 26/2/1988,
شارك رأيك