تدخل تونس مع تلاحق الأحداث وتطور المستجدات مرحلة امتحان مصيري من خلال استفتاء 25 جويلية القادم حول الدستور الجديد. وتواجه نقاط تحدٍّ بارزة لا يستطيع أحد التنبّؤ بمضاعفاتها. تساؤلات عديدة تُطرح حول أهمّ المتغيّرات المحدّدة لمستقبل تونس، وأبرزها حول الدستور الجاري الذي ولّدته ظروف ضاغطة، وأخرى حول النظام القائم ومدى نجاحه في استيعاب المتغيرات الجديدة وتحقيق التنمية والاستقرار.
بقلم العقيد محسن بن عيسى
رجال الفكر قاطرة الشعوب
يضعنا المشهد السياسي الممزّق على عتبة تاريخية هامة لوضع الأمور في نصابها واستبدال “ميكانيكية” السياسية لتكون أكثر فاعلية في تنفيذ القرار الجماعي وأكثر حماية للدولة ومكتسباتها. فالنصوص التي اعتمدت منذ 2014 جعلت البلاد رهينة تجربة مأخوذة عن واقع مخالف لواقعنا.
يعتقد كثير من الناس أنّ كتابة الدستور هو عمل من خصوصيات رجال القانون وبخاصة أساتذة القانون الدستوري. ولا يختلف الكثير وكل من يقبل بمنطق الدولة الحديثة في قدرة الدولة على صياغة دستورها وسن قوانينها التي هي أبرز مظاهر سيادتها. ولكن الواقع يراهن على رجال الفكر الذين كانوا ومازالوا قاطرة الشعوب في الدراسات العلمية والإنسانية.
الدستور هو العمل الأهم في حياة الشعوب وهو العقد المبرم بين الدولة وبين الشعب ومنه يستطيع المواطن معرفة حقوقه وواجباته كما يستطيع من خلاله محاسبة السلطات القائمة على إدارة وطنه. فالإصلاحات الحقيقية التي تغيّر وجه التاريخ لا تحصل وتسير وتنتصر ما لم يدفع إليها رجال الفكر الذين يتولون كشف الحقائق وإنارة السبيل.
ليس من قبيل المبالغة اعتبار الكاتبان الفرنسيان مونتيسكيو وروسو منظرا الدساتير في العالم المعاصر. لقد أسّس الأول لنظرية نظام الحكم في كتابه “روح القانون” وفيه بلور نظرية الفصل بين السلطات الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية. كما دعا إلى الحرية والعدل والتسامح وطالب بالمحافظة على الخصوصية الجغرافية والتاريخية والثقافية لكل بلد. أما الثاني فركز اهتمامه على العبودية وعدم المساواة في “كتابه العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق الإنسانية”، وطالب بتنظيم الثروة والتربية وحرية المعتقد. كما ذكر أن هدف أي نظام اجتماعي وسياسي هو حفظ حقوق كل فرد وأن الشعب هو صاحب السيادة والنظام الجمهوري هو نظام المستقبل.
مجتمع ما بعد 25 جويلية
العملية الدستورية هي في أصلها عملية صنع توافق، وحلول وسطى تُترجم إلى نص. ومما لا خلاف فيه تعيش تونس هذه الأيام على وقع هذه العملية أي إعداد وثيقة تعاقد اجتماعي جديد (أو دستور) آمل أن تؤسس لمجتمع ما بعد 25 جويلية.
يبدو أنّ الهدف القائم ليس في تحليل الماضي فصنع الدساتير يخشى الماضي في المطلق أكثر مما يتأمل في المستقبل. البلاد ترغب في التداول حول طريق المستقبل بعد ان عرف المجتمع التونسي شكلا من أشكال الاستقطاب الأيديولوجي والديني، وتهميش المواطنة التي كانت غائبة كليا أو جزئيا من الحياة السياسية.
الجديد المنتظر هو دعوات للمرور من الدولة الوطنية إلى دولة المواطنة التي تقبل التعدد وتسعى لإدارته من دون الإطاحة بمكاسب الدولة التاريخية. أعلم أنّ لبّ الدستور هو السلطات العامة وهي بيت القصيد، ولكن هناك حاجة لخلق توازن بين الحقوق والحريات وضبط أطر تحسين الأداء السياسي مع إعادة ترتيب الخيارات والأولويات الوطنية.
للأسف أنّ المتابع للخطاب السياسي اليوم يجده خارج السياق ويلحظ دون عناء أنه لا زال يتضمّن تعبيرا عاطفيا وليس استراتيجيا ويفتقد أحيانا للكياسة واللياقة ويعطي شعورا لمبادئ غير منطقية. لا أعتقد أنّ “التعابير المستعملة” تساعد على بناء ثقافة عامة تشكل الوعي الاجتماعي المطلوب لما بعد 25 جويلية، وتعيد صياغة الثقافة السياسية للمواطنين. وعلى ذلك فإنّ ما نحتاج إليه أكثر من شيء آخر هو خطاب دون تأويلات لبناء الثقة داخل المجتمع وبين المجتمع والدولة ومؤسساتها. فرقي الشعوب يمر عبر مرئيات جديدة من الأخلاق والمثل العليا والخطاب السياسي في هذا السياق هو تعبير اجتماعي بحت، ولغته تخضع لمظاهر الثقافة الاجتماعية.
علينا القطع مع الماضي الذي كرّس الاذلال والاستغلال وإنهاء حالة الصراع من أجل السلطة وباسم الشعب.
شارك رأيك