من البديهي أنّ الدستور يضطلع بمُهمّة تحديد طبيعة النظام القائم و تنظيم السُلط مع الحرص على إرساء دولة المؤسسات و الحريّات، لكن هل من الضروري أن يتطلّب الأمر في تونس كلّ هذا اللغو أو الضجّة الكلامية والإعلامية الفارغة كي يتسرّب لنا الإحساس أنّنا في طريق الرفاه الاقتصادي و النعيم الحُرّياتي و الجِنان المؤسساتية؟ ما فائدة الدستور؟ إذا كان مُحرّك الدولة لا يعمل و لا يريد حتى أن يعمل… عندئذ تُصبح الدساتير جميعها مضيعة للوقت و اهدارا للطاقة القرطاجية الرئاسية.
بقلم ميلاد خالدي
يقول السياسي الأمريكي ستيفن جونسون فيلد “يتعامل الدستور مع الجوهر وليس الظلال”، هاته المقولة تجُرّنا رأسا إلى أنّ من يراقصون ظلال المّواد والفصول ينتهي بهم الحال إلى الغرق في الهامش بينما هم يعلمون أنّ الجوهر هو المُخلّص الوحيد.
طيّب لو فرضنا أنّ لدينا” أفضل” دستور مع أنّه ليس هناك أفضل دستور، فأضليته تكمن في مدى تشريعه للحقوق و الحريات الفكرية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية. فالدستور مع دولة عاطلة و معطّلة لا قيمة له، ولا مُبرّر له أصلا، ناهيك أنّه الجدار الخامس الذي على كل سياسي أن يسقطه كي يضمن الاستدامة.
الدستور ليس بالقيادة السياسية..
من البديهي أنّ الدستور يضطلع بمُهمّة تحديد طبيعة النظام القائم و تنظيم السُلط مع الحرص على إرساء دولة المؤسسات و الحريّات، لكن هل من الضروري أن يتطلّب الأمر في تونس كلّ هذا اللغو أو الضجّة الكلامية والإعلامية الفارغة كي يتسرّب لنا الإحساس أنّنا في طريق الرفاه الاقتصادي و النعيم الحُرّياتي و الجِنان المؤسساتية؟ ما فائدة الدستور؟ إذا كان مُحرّك الدولة لا يعمل و لا يريد حتى أن يعمل… عندئذ تُصبح الدساتير جميعها مضيعة للوقت و اهدارا للطاقة القرطاجية الرئاسية.
هل الدستور الذي تملكه تونس منذ 1959 كان ذريعة لتعميم الصحّة و التعليم أم أنّ هناك قيادة جاءت لتفعيل تلك الحقوق و ممارستها. ما أريد أن أسوقه هو أنّ القيادة السياسية هي التي تُفعّل نظام الحُكم و الحقوق و الحرّيات و ليس ذلك الحبر على الورق الذي يمكن أن يخدع و يُخادع. على سبيل الذكر لا الحصر جاء في دستور 1959 بالمادة الخامسة على “أنّ الجمهورية التونسية تقوم على مبادئ دولة القانون و التعدّدية” لكن هذا لم يتجسّد في الحقيقة، إذ شهدنا تمظهرات الديكتاتورية و التضييق على الحُرّيات و انتهى الأمر بجمع السلط في يد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
الدستور جوهر حرّ ومُلزم..
الدستور ليس هو عقل السياسي و إنّما العكس عقل السياسي هو المُحرّك النفّاث لجوهر الدستور حيث يأخذنا الحديث مرّة أخرى إلى قولة جونسون فيلد إلى أنّ الدستور يتعامل مع الجوهر و ليس مع الظلال، والمقصود بالظلال جملة المغالطات و السفاسف و العشوائيات التي يقتنصها السياسي كي يوهم سائر الشعب أنّ كُلّ ما يقوم به هو خدمة لمصالحه لا غير.
الظلال هي تلك النقاشات المفلسة حول مدنية الدولة و حول دين الدولة و الشّعب، وهل إنّ الشّعب التونسي كُلّه مسلم أم إنّ للدولة دين بعينه؟ و هل رئيس الجمهورية يجب أن يكون مسلما أم إنّ الأمر غير مطروح. ليست الدساتير حول العالم وحدها هي التي تصنعُ محرّكات الازدهار و التنمية و الديمقراطية بل هي نافذة صغيرة تُفتح و البقاء عليها مُغلقة، ربما يغيّر الشيء الكثير.
من الجدير بالطرح أنّ النظر في الدساتير المقارنة ودراستها شأن حيوي من أجل صياغة دستور جديد مواكب و مُحايث للتطوّر المجتمعي و التكنولوجي الحاصل اليوم. و لما لا يقع صياغة وثيقة قانونية موازية وملزمة لرئيس الدولة و لأعضاء البرلمان تُلزمهم بتطبيق برنامجهم الانتخابي الذي جاؤوا من أجله أو يصدرُ في حقّهم عقوبات زجرية.
فبقدر ما نبحث عن كتابة دستور جديد متطور يجب أن نُطوّر أوّلا مفهوم الدولة “العقل”، تلك الدولة الحرّة المُنفتحة الليبرالية التي لا تتدخّل من أجل العرقلة أو التعطيل أو التأخير كما هو الحال الآن و إّنما تتدخّل من أجل الدعم والتأطير و الاحتضان و الدفع بالهياكل الرسمية والأشخاص الطبيعيين و المعنويين و المُنظّمات كي يحقّقوا الأفضل لهذا الشعب الأحمق.
كاتب.
شارك رأيك