بعد فشل الأضراب الذي فرضوه على شعب المتقاضين خسر القضاة التونسيين هذه المرة معركة مهمة ستكون ارتداداتها و إرهاصاتها مدوية بل لنقل هل يمكن للقضاة اليوم أن يستغلوا هذا الفشل للتطهر من عديد القضاة الذين تزعموا الحركة الفاشلة؟
بقلم أحمد الحباسي
حين أصدر رئيس الجمهورية السيد قيس سعيد مرسوما جمهوريا بإعفاء ما لا يقل عن 57 قاضيا بتهمة الفساد و الرشوة و غيرها كان منتظرا أن يعلن الجسم القضائي النفير العام و يدعو كافة المنتسبين إليه إلى استعمال ما سمى في بيان إضراب القضاة “الوسائل النضالية”.
المثير في هذه المسألة أن جمهور القضاة و فيهم من كان يتخذ من شعار مقاومة فساد بعض القضاة حصان طروادة لإخفاء ماضيه الأسود و المشبوه في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن على على غرار رئيس جمعية القضاة السيد أنس الحمادي متزعم هذه الحملة و “ناطقها” المفوّه في كل وسائل الإعلام الذي اتهمته هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمي علنا بكونه قد كان يد السلطة لضرب معارضيها في ما يسمى بقضية الحوض المنجمى في عهد الرئيس الراحل المذكور هم من انقلبوا على هذا التاريخ المشوه و باتوا يزعمون العفّة و الشرف متجاهلين أن الشعب قد كشف المستور.
تغير موقف نفس الجسم القضائي من النقيض إلى النقيض
من المفارقات العجيبة أن الجسم القضائي لم يتحرك و لم يعارض و لم يضرب و لم يهدد حين أقصى السيد نورالدين البحيرى وزير العدل السابق في حكومة الترويكا ما لا يقل عن 87 قاضيا بجرة قلم واحدة و لذلك تساءل المتابعون لماذا تغير موقف نفس الجسم القضائي من النقيض إلى النقيض بل لماذا تغير موقف القضاة و الحال أن هؤلاء الذين يصرون و يلحون على الإضراب الوحشي هم أنفسهم من وصفوا بعضا من زملائهم بكل الأوصاف المعيبة التي تمس من هيبة القضاء و نزاهته.
من المفارقات أيضا أن المضربين لم يراعوا مصلحة المتقاضين و داسوا على حقهم الدستوري في إقامة العدالة مع أن هؤلاء المضربين هذه المرة لم يقوموا بنفس الخطوة حين داس وزير العدل المذكور على كرامتهم و لطخ سمعتهم و أسمعهم من عبارات الوعيد ما يندى له الجبين و يستدعى الالتجاء فورا لحق الإضراب.
بلجوئه للإضراب القضاء فقد كثيرا من الاحترام و الهيبة
صدر مؤخرا عن المضربين إعلام مشوب بكثير من الغموض بفكّ الإضراب و بدل أن يثير الإعلام المذكور شيئا من الارتياح و الفرح و القبول فقد لاقى من المواطنين و من المتقاضين بالذات من عبارات الرفض و الاستهجان و السخرية ما يؤكد أن القضاء بلجوئه للإضراب قد فقد كثيرا من الاحترام و الهيبة ناهيك أن المتقاضى لا يزال يتذكر الإضراب الوحشي للقضاة السنة الماضية و الذي دام أكثر من شهر وهي فترة طويلة تعطل فيها المرفق القضائي و أصيب بالشلل التام و لم يتم فكه إلا بعد أن تمت الاستجابة للمطالب المالية المجحفة للمضربين في وقت كان الآلاف من المواطنين يعانون من نقص في أجهزة التنفس الاصطناعي في عزّ جائحة الكورونا.
لقد استغلت قيادة الإضراب مجرد لقاء مع السيد نورالدين الطبوبي الأمين العام لاتحاد الشغل لتعلن فك الإضراب و الحال أنها لم تستجب في بدايته إلى أية دعوة من كل المتدخلين الرافضين لإعادة سيناريو السنة الماضية ليتساءل البعض عن سر هذه الانعطافة المهزلة وعن مدى وطنية و حنكة قيادة الإضراب وعن حصاد هذا التصرف الوحشي في وقت تعانى فيه البلاد من ضيق على كل المستويات.
في مراجعة أولية لمضمون دستور الرئيس قيس سعيد المعروض على الاستفتاء يوم 25 جويلية الجاري يتبين أنه يتضمن إلغاء نهائيا لحق الإضراب بالنسبة لكامل الجسم القضائي، بطبيعة الحال هذه ضربة موجعة لقيادة الإضراب و هذا ما جناه تصرف المتعنتين الموتورين الذين تزعموا هذه الجريمة النكراء ضد المتقاضين للسنة الثانية على التوالي لأن تحجير الإضراب قد كان قرارا متوقعا بعد أن فشل الرئيس في إقناع القضاة بضرورة استعجال التحرك للتخلص من الفاسدين الذين باتوا معروفين بالإسم و القيام بدورهم في محاسبة المجرمين و البت في القضايا المتراكمة عليهم منذ سنوات و بالذات القضايا الكبرى التي أصبحت تهم الرأي العام مثل قضايا الجهاز السري لحركة النهضة و ملف الشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمى و ملف تسفير الإرهابيين إلى سوريا و ملف التمويل الأجنبي لحزب النهضة و ملف المدارس القرآنية.
المجموعة الوطنية لم تعدا تتحمل شطحات الجسم القضائي العليل الآيل للسقوط
إن تحجير الإضراب و التجاء الرئيس إلى اقتطاع أجور القضاة عن كامل فترة الإضراب قد كانت أوضح تعبيرا على أن المجموعة الوطنية قد باتت لا تتحمل شطحات هذا الجسم العليل الآيل للسقوط و الذي يمثل عبئا ماليا يرهق ميزانية الدولة دون أن يقوم بدوره المطلوب بسبب انغماس كثير من القضاة في الفساد و ممارسة السياسة و موالاة بعض الأحزاب الفاسدة.
لقد كان منتظرا أن يلجأ السيد أنس الحمادي باعتباره متزعم الإضراب و لسان حال المضربين الى تقديم استقالته الفورية حفاظا على ما تبقى له من حمرة الخجل و ماء الوجه غير أنه من الواضح أنه رغم ما تسبب فيه للقضاة من ضرر على كل المستويات و صدور قانون منع الإضراب فإن الرجل لا يزال متشبثا بموقعه حتى يكون الحائط و السور العالي الذي سيمنع عنه حق المحاسبة حول ماضيه الأسود في ملف الحوض المنجمى و حق النبش في دفاتره القضائية التي طالتها كثيرا من الشبهات إضافة إلى فتح بحث حول من يقف وراء الرجل و من يدفعه للزج بالجسم القضائي في أتون معركة كسر عظم مع النظام لا تخدم مصلحة أغلب شرفاء القضاة جعلته يخسرها بالضربة القاضية نظرا لصلابة و تصلب موقف الرئيس و عدم استعداده للتنازل أمام فئة فاسدة تستخدم أغلبية القضاة الشرفاء لإشعال نار الفتنة في البلاد.
لقد خسر القضاة هذه المرة معركة مهمة ستكون ارتداداتها و إرهاصاتها مدوية بل لنقل هل يمكن للقضاة اليوم أن يستغلوا هذا الفشل للتطهر من عديد القضاة الذين تزعموا الحركة الفاشلة؟
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك