ازداد الحديث والتعليق والنقاش مؤخرا في تونس حول موضوع البذور وتحول في بعض الأحيان إلى معارك كلامية لا تخلو من الثلب والتخوين بين الأطراف ذات الآراء المتناقضة. لذلك، سنحاول هنا طرق هذا الموضوع الشائك بصورة مبسطة وسهلة وبدون انحياز لأي طرف.
بقلم د. بوزيد نصراوي
في البداية، يجب رفع الالتباس في استعمال كلمة “بذور” لأن مستعمليه يقصدون “الأصناف” وليس البذور في حد ذاتها، لأن الصنف هو من ينتج البذور و/أو الشتلات ويمرر من خلالها صفاته الخاصة.
تعريف الأصناف
بصفة عامة، هناك عدة أنواع من الأصناف النباتية هي:
الأصناف المحلية القديمة: هي الأصناف المعروفة لدى الفلاحين منذ القدم وقد يكون بعضها انقرض والبقية يعمل بنك الجينات حاليا على تشخيصها وتجميعها وتخزينها وحمايتها. وكان مختصون غربيون في تحسين النبات قد أخذوا بذور البعض من هذه الأصناف التونسية إلى بلدانهم (مثل الولايات المتحدة وأستراليا) وحسنوها وطوروها ثم روجوها تجاريا في كثير من أنحاء العالم، بما في ذلك تونس. وهذه الأصناف المحلية القديمة هي غير مسجلة في السجل الرسمي للأصناف لدى وزارة الفلاحة (الإدارة العامة للصحة النباتية ومراقبة المدخلات الفلاحية).
الأصناف المحلية المحسنة: هي الأصناف التي قام الباحثون التونسيون المختصون في تحسين النبات بتحسينها وتطويرها عبر عقود من الزمن من خلال استخدام الجينات المفيدة المجودة في الأصناف المحلية القديمة نفسها ومعها جينات أخرى من سلالات وأصناف أجنبية تم جلبها عن طريق مراكز دولية مثل إيكاردا وسيميت.
وأهم الأصناف المحلية المحسنة المعروفة الآن في تونس هي أصناف عديدة من الحبوب والبقوليات التي تم تطويرها خاصة في المعهد الوطني للبحوث الزراعية بتونس. وهذه الأصناف المحلية المحسنة هي مسجلة في السجل الرسمي للأصناف لدى وزارة الفلاحة التي تقوم بمراقبة بذورها المثبتة في بداية كل موسم فلاحي (مثلا حوالي 300 ألف قنطار من البذور المثبتة للأصناف المحلية المحسنة للحبوب تقوم وزارة الفلاحة بمراقبتها كل سنة قبل بداية موسم البذر).
الأصناف الأجنبية المحسنة: هي الأصناف التي تم تحسينها وتطويرها في الخارج وتُباع في بلدنا تونس من قبل مؤسسات محلية ممثِّلة لشركات عالمية منتِجة للبذور والشتلات.
وهذه الأصناف الأجنية المحسنة هي مسجلة في السجل الرسمي للأصناف لدى وزارة الفلاحة التي تقوم بمراقبة بذورها المثبتة عند توريدها في بداية كل موسم فلاحي وقبل السماح بترويجها وبيعها للفلاحين.
ومن بين هذه الأصناف الأجنبية المحسنة (بعضها وليست كلها) ما يُسمى بالأصناف الهجينة، وهي أصناف تتميز بإنتاج أوفر من الأصناف العادية ولكن لا يمكن استعمال بذورها لأنها لا تعطي نسخة من الصنف الأصلي. وهذا شيء معروف ويُدرّس في علم الوراثة النباتية ويمكن للباحثين التونسيين تطوير أصناف هجينة تونسية نظرا لإنتاجها الوافر، لكن الشركات العالمية تستغل هذه الخاصية العلمية لمنع الفلاحين من إكثار البذور التي تنتجها وبذلك تحمي حقوق الملكية الفكرية لأصنافها دون أن تلجأ للمراقبة والمتابعة مثلما هو الحال عندما تكون الأصناف غير هجينة.
خاصيات الأصناف
للأصناف النباتية خاصيات منها الإيجابي ومنها السلبي كما هو مبين بعضها أسفله:
الأصناف المحلية القديمة: أغلبية هذه الأصناف (وليست كلها) معروفة بطعمها اللذيذ وتأقلمها الجيد مع التربة والمناخ التونسييْن حيث تتحمل حرارة وبرودة الطقس ونقص المياه وفقر التربة وهي أيضا تقاوم بكفاءة عديد الأمراض والآفات الزراعية ولا تكاد تحتاج إلى المدخلات (الأسمدة والمبيدات). وبذلك تراها تنتج أكثر من الأصناف المحسنة (محلية أو أجنبية) عندما تكون مزروعة في ظروف إجهادية صعبة.
لكن، هذه الأصناف المحلية القديمة تنتج أقل من الأصناف المحسنة عند توفر تربة غنية وطقس ملائم جدا ومياه كافية وجميع المدخلات. كما أن الأصناف المحلية القديمة لا تُزرع خارج فصولها الخاصة بها.
الأصناف المحسنة (المحلية والأجنبية): هذه الأصناف معروفة أغلبيتها بطعمها الفاتر ونكهتها الضعيفة، وزراعتها تتطلب تربة غنية وطقس ملائم جدا (أو بيوت محمية) وهي أيضا حساسة للعديد من الأمراض والآفات الزراعية وتحتاج إلى كمية كبيرة من المدخلات (الأسمدة والمبيدات). ولكن في ظل هذه الظروف المثالية، يكون إنتاج الأصناف المحسنة أعلى بكثير من إنتاج الأصناف المحلية القديمة. بينما يحصل العكس عندما تكون الزراعة تحت ظروف إجهادية صعبة. إلا أن الأصناف المحسنة (المحلية والأجنبية) يمكن زراعتها خارج فصولها الخاصة بها وبذلك ترى العديد من هذه الأصناف متواجد على مدار السنة.
استغلال الأصناف
حسب الإمكانيات المتوفرة لدى الفلاح، يمكن اقتراح استغلال الأصناف كما يلي:
الأصناف المحلية القديمة: هذه الأصناف يمكن أن يستغلها الفلاح الصغير أو المتوسط الذي تكون تربته فقيرة أو لا يقدر على توفير كميات كافية من الماء أو الذي لا يستطيع ماليًا مواجهة تكاليف المدخلات.
وفي هذا المجال، يمكن للفلاح إكثار بذور أو شتلات أصنافه واستعمالها في ضيعته كما يشاء، لكن المفروض أنه لا يمكن له ترويج أصنافه (بمقابل أو بدون مقابل) لدى فلاحين آخرين قبل مراقبة بذوره أو شتلاته من قبل وزارة الفلاحة. وهذا المطلوب من الفلاح الصغير أو المتوسط هو لحمايته وحماية الفلاحين الآخرين من بذور وشتلات غير مراقبة قد تكون حاملة للأمراض والآفات أو قد تكون غير متجانسة أو تحمل في ثناياها شوائب خطيرة مثل بذور نباتات طفيلية أو ضارة أو حتى غازية مثل بذور الشويكة الصفراء.
إلا أن مراقبة بذور وشتلات الأصناف المحلية القديمة تتطلب قبل ذلك تسجيلها في السجل الرسمي للأصناف لدى وزارة الفلاحة (الإدارة العامة للصحة النباتية ومراقبة المدخلات الفلاحية). والمطلوب هنا من وزارة الفلاحة، هو السعي إلى تنقيح قانون البذور والشتلات، بحيث يمْكن من خلاله إدخال مرونة خاصة بمتطلبات تسجيل الأصناف المحلية القديمة، أو وضع سجل رسمي خاص بالأصناف المحلية القديمة، وذلك حتى يتيسّر لكل فلاح أن يقوم بتسجيل أصنافه بصفة رسمية. وبهذه الطريقة، يمكن حل الإشكال الخاص بترويج الأصناف المحلية القديمة التي تصبح مسجلة وقابلة للمراقبة.
الأصناف المحسنة (المحلية والأجنبية): هذه الأصناف يمكن أن يستغلها كبار الفلاحين وكذلك الشركات الزراعية الكبرى نظرا لتوفر إمكانيات مالية ضخمة لديهم، تمكّن من زراعة هذه الأصناف في ظروف مثالية تجعلها تصل إلى أقصى درجات انتاجها.
خاتمة:
إن موضوع الأصناف النباتية، القديمة أو المحسنة، يمكن نقله أيضا إلى السلالات الحيوانية من خلال المثال البسيط التالي:
إذا وُضع بقر هولندي حلوب (سلالة محسنة) مع قطيع من بقرنا المعروف (سلالة محلية) ليعيش على الرعي في ما توفره الطبيعة فقط، فإن إنتاج هذا البقر الهولندي سيكون أقل من إنتاج البقر المحلي لأنه لا يستطيع التأقلم مع محيطه، فيتعب وقد يمرض أو حتى يموت.
إذا وُضع البقر المحلي في ظروف مثالية من العيش مثل التي يعيش فيها البقر الهولندي، فإن إنتاج البقر المحلي سيكون أضعف بكثير من إنتاج البقر الهولندي، لأن رصيده الوراثي لا يسمح له بإنتاج مرتفع (وقد أُجرِيتْ هذه التجربة في المركب الفلاحي بفريطيسة (ولاية بنزرت) خلال سبعينات القرن الماضي وتم التأكد من نتائجها).
لذلك، على المعنيين بالأصناف النباتية، تجنب النقاشات العقيمة والمعارك الوهمية، والبحث عن حلول واقعية تنهض بقطاع البذور والشتلات، حيث تتعايش الأصناف المحلية مع الأصناف المحسنة بسلام وبدون إقصاء طرف للآخر.
أستاذ جامعي.
شارك رأيك