رغم أنّه وقع في سنة 2018 سنّ قانون في تونس يُجرّم الممارسات العنصرية بكلّ أشكالها، فإنّ خطاب الكراهية و العدائية و الإقصاء يظل سائدا ضدّ المهاجرين من دول جنوب الصحراء الذين وقع طردهم من المبيتات الجامعية ومحلاّت الكراء لأنّهم لم يتمكّنوا من تسديد ما عليهم خلال فترة الإغلاق الكُلّي بسبب وباء كورونا.
بقلم ميلاد خالدي
يقول المُمثّل الأمريكي مورغان فريمان: “تنتهي العنصرية عندما نتوقّف عن الحديث عنها”. يمكن أن تكون هذه المقولة صحيحة حين ندركها من منطلق أنّ العنصرية هي خطاب إقصائي بالدرجة الأولى مُوجّه إلى الآخر المُتباين عنّا، لكن يمكن أن تكون خاطئة من ناحية أنّها وجهة نظر و أسلوب تعامل وموروث ثقافي و تفكير مُبطّن مفاده أنّ كلّ الشعوب عنصرية دون استثناء، يبقى فقط القانون و يافطة التحضّر هما اللذان يُبطئان عملية انتشارها.
رغم المواثيق و المنظمات الدولية فإنّ هذه الممارسات الهجينة تظلّ مُستشرية في كلّ دول العالم و لا تُستثني تونس من هذه السلوكيات العرقية المُشينة حيث تمّ رصد عديد التجاوزات سنتي 2011 و 2020 في حقّ المهاجرين ذوي البشرة السوداء.
من باب التعريج، ذوي البشرة السوداء هي التسمية الصحيحة و ليس ذوي البشرة السمراء لأنّ هذه الأخيرة تندرج تحت طائلة الميز العنصري المباشر.
العُنصرية المائلة والماثلة…
لا يمكن للعنصرية أن تستقرّ على حال فهي ماثلة كإبرة الميزان تارّة على اليمين و تارّة على الشمال فنادرا ما تستقرّ في الوسط حتى و إن استقرّت فتظلّ مائلة.
يجرّنا هذا الحديث إلى أنّ العنصرية تضرب كلّ الأعراق و الأجناس من اليمين و من اليسار، من الشمال و من الجنوب. ففي القارّة الافريقية تُمارس التفرقة العنصرية إزاء الشخص الأسود و الشخص الأبيض على حدّ السّواء.
رغم أنّه وقع في سنة 2018 سنّ قانون في تونس يُجرّم الممارسات العنصرية بكلّ أشكالها، فإنّ خطاب الكراهية و العدائية و الإقصاء يظل سائدا ضدّ المهاجرين من دول جنوب الصحراء الذين وقع طردهم من المبيتات الجامعية ومحلاّت الكراء لأنّهم لم يتمكّنوا من تسديد ما عليهم خلال فترة الإغلاق الكُلّي بسبب وباء كورونا.
نفس الشيء يتكرّر لكن بصورة عكسية، حيث يروى لنا الرحالة التونسي مهدي بلحاج على صفحته في مواقع التواصل الاجتماعي عن تعرّضه لممارسات عنصرية في مدينة زنجبار من قبيل أنّه فُرض عليه دفع معلوم أكثر بثلاث مرّات من المعلوم الأصلي قصد الصعود إلى المركب المتوجّه نحو جُزر القمر.
هذا الابتزاز و الإجحاف سوّغ له عون الجمارك بكون مهدي بلحاج رجل أبيض و على الرجال البيض دفع أكثر من غيرهم لأنّهم بكلّ بساطة من ذوي البشرة البيضاء و الرجل الأبيض بطبيعته يملك المال ليدفع.
هذه المظاهر العنصرية هي في الحقيقة أفكار ترسّخت عبر الأجيال ومن الصعب أن تمّحي تماما ويعود الأمر إلى غريزة الإحساس بالأفضلية التي تتفوّق على كلّ شيء من بينها القانون و السلوك الحضاري و قيمة التسامح. ربّما هو براديغم كما تُدين تُدان أو كَـمَـا تَـكُـونُـوا يُـولَّـى عَـلَـيْـكُم، نوجّهه إلى الرجل الأبيض و تاريخه الأغبر في العبودية و تجارة الرّق، لكن لا تزِر وازرة وِزر أخرى في نهاية المطاف.
قبول طوعي للآخر فنّيا..
سألني أحدهم ما إذا كان مُمكنا أن نتصدّى لوابل العنصرية و التفرقة على أساس الجنس أو اللغة أو العرق أو لون البشرة أو غيرها على غرار تطبيق القانون و بثّ الوعي؟ أجبته أنّ ذلك جائز لكن الأمر يتطلّب بعض الوقت. العمل على تدريس الأعمال الفنية من أدب و موسيقى و مسرح و فولكلور في المدارس للأجيال الناشئة و التي تُعنى بانتاجات الأفارقة و العرب و الغجر و الأكراد وغيرهم الذين يتعرّضون لحملات التنمّر و الهرسلة باسم أشياء ليس لديهم فيها ذنب.
ككاتبة نسوية مُعارضة للميز العرقي و الهُووي تقف الأكاديمية الأمريكية آنجيلا دفيس كأيقونة النضال من أجل التحرّر و المساواة في العالم، كما يقف الرسّام من جنوب افريقيا ثامي منيلي Thami Mnyele الذي شارك في مؤتمر في هولاندا بعنوان “ستُفتح أبواب الثقافة” لأنّه يعلم انّه بالفنّ و الرسم و المسرح يمكن تبديد لُجج الظلام من الحقد و الكراهية و الأصولية.
رحل الفنان ثامي منيلي مغدورا مقتولا بيد أن التزامه الفني و فنونه البصرية ظلّت صادعة دامغة إلى يومنا هذا منذ أكثر من ثلاثين سنة. في كتابه “ضرورة الفنّ” المنشور سنة 1963 يقول الكاتب النمساوي إرسنت فيشر: “الفنّ أداة أو سلاح سحري في يد الجماعة الإنسانية في صراعها للبقاء”. إنّه ليس ذلك البقاء للأفضل أو للأقوى إنّه بقاء الانسان الهامشي مع المحوري، القاصي مع الداني، الأبيض مع المُلوّن (ذوي البشرة الصفراء أو الحمراء أو السوداء…). إنّه بقاء الإنسان في الفنّي، المحلّي في الكوني، إنّه الإنساني في الإنسان.
لا يمكن الجزم أنّ العنصرية حكرعلى عرق دون آخر و إنّما هي امتداد عابر للأعراق، ربّما هي تقبع في زاوية من زوايا جيناتنا المُتبلّدة الرافضة للتحوير، لكن هذا لا يمنع من توفّر Antidote وهو قادرأن يُقلّص من تدفّق الخطابات الموازية التي تُضرّ بالعمق و بالأطراف.
لقد حان الوقت كي نتعرّف على الآخر فنيّا و ثقافيا وإنسانيا و ما أصعب أن ندرك إنسانية الإنسان… لأنّنا حتى الآن ما أدركنا سوى تلك المادّة الرمادية بعد تشكّلها.
كاتب تونسي.
شارك رأيك