حملة إعلامية متواصلة هذه الأيام في الإذاعات و القنوات الرسمية التونسية قصد شحذ هِمم المواطنين للتبرّع بالمال من أجل النهوض بواقع المؤسسات التربوية التي تشهد وضعا كارثيا ‘جحيميا’ في محاولة لانتشال مائة ألف تلميذ مُهدّد بمغادرة مقاعد الدراسة. في الحقيقة ليس هناك دولة في العالم تحترم نفسها و تُراهن على نظام تعليمي متطوّر و مُجدي و ذو جودة عالية تستجدي شعبها في بعض الملاليم المتآكلة من جيوب المعدمين ضمن حملة تبرّعات بائسة، متغافلين أنّ التبرّعات لا تبني دُولا قوّية و محترمة و إنّما تتحوّل بفعل الزمن إلى رُكام غير قابل حتى للرسكلة.
بقلم ميلاد خالدي
لنتّعظ بالداخل و الخارج
حرّي بنا أن نُعدّ استراتيجية نافذة و مستمرّة في الزمن تُعنى بكيفية الاستثمار في التعليم و جعله أولوية وطنية كما كان الحال إبّان الاستقلال حيث الصحّة و التعليم حظيا بخُمسي ميزانية الدولة، لكن منذ مطلع الألفية الثالثة وقع التقليص في حجم الميزانية المُوجّهة للتعليم لتغدو المدارس و المعاهد مجرّد بنايات لقاعات مظلمة، لماذا لأنّ مُسيّروها لم يجدوا ميزانية للصيانة و التجهيز و الإصلاح و التحديث.
ما دعا إليه الرئيس قيس سعيد جميع المواطنين إلى التطوّع و التبرّع حتى من ذوي الدخل المحدود هو تجسيد للشعبوية الممجوجة التي تحُطّ من قدر الدولة و هيبتها. حتى و إن تبرّع كلّ المواطنين على مدى سنوات فلن يتغيّر واقع التعليم و البنية التحتية المهترئة التي لا تشجع على مواصلة الدراسة لا سيّما في المناطق النائية أين التلاميذ يقطعون الوهاد و النجاد في أجواء مناخية قاسية و مرعبة لبلوغ مؤسسات أقلّ ما يقال عنها انّها مُنفّرة و مُهجّرة.
من بين أسباب نهضة رواندا بعد الحرب الأهلية التي دارت بين قبيلتي الهوتو و التوتسي هو مراهنتها على التعليم لتنوير العقول و النفوس و بثّ روح التسامح و التعايش من خلال التعويل على منظومة تربوية صلبة تفتح أبواب النقد و قبول الآخر. دول رائدة لم تستثمر في الجيش و الأمن والقنابل المُسيلة للدموع و المدرّعات كما الوضع لدينا منذ عشر سنوات باسم الإرهاب و باسم “الوهم الضّال”. زعامة بنّاءة لا لشيء إلاّ لخدمة شعب رواندا ومستقبله و مصلحته العُليا بعيدا عن كلّ تجاذب طائفي أو قبلي أو عرقي. فرغم فقرها المُدقع و خروجها مُدمّرة من حِقبة قاتمة إلاّ أنّها راهنت على التعليم بتخصيص له 15 بالمائة من ميزانيتها ، حتى الدول الأوروبية و الخليجية لم تُخصّص هذه القيمة، إذا أردنا عقد مقارنة شافية.
اللقمة الباردة و اليد السُفلى..
سياسة التسوّل و الاستجداء لا تصنع سوى مُتسولين محترفين ببدلات رسمية أنيقة و ربطات عنق جذّابة، فما بالك إن كانت الدولة هي في حدّ ذاتها من يحترف التسوّل في انتظار اليد العُليا ‘الأمريكية أو الأوروبية أو الخليجية’ حتى تضُخّ فينا نفخة من أوكسيجين نصحو من خلاله قليلا ثمّ نعاود الاسترخاء و الاستمتاع “باللقمة الباردة”. المُثير للإنتباه أنّ قيس سعيد كان قبل 25 جويلية 2021 ينتقد طريقة عمل الحكومات التونسية منذ 14 جانفي 2011 القائمة على سياسة الاقتراض والتسوّل لتجده الآن ‘بعظمة’ لسانه يدعو عموم المواطنين فقراءهم قبل أغنيائهم إلى حملة تبرّع واسعة النطاق لشدّ أزر أسقف المؤسسات التربوية كي لا تسقط على رؤوس “البراعم المُشرئبّة نحو اللامعلوم”.
الوقوف على أعتاب الاستجداء سهل و التسوّل على قارعة الطريق يسير أمّا وضع الاستراتيجيات التنموية الجادّة و مُخطّطات العمل فيما يخصّ القطاعات الحيوية من صحّة و نقل و تعليم فهي ليس بالهينة لأنّها شهادة حقيقية على صدق الحاكم و نُبل مشروعه لأنّ الاستثمار في المستقبل هو الضامن الوحيد لهيبة الدولة و كرامة مواطنيها عوض النبش في جيوب الآخرين لأنّنا حينها مضطرّون أن نُنزل رؤوسنا أو بالأحرى “هاماتنا غير المرئية”.
كاتب.
شارك رأيك