الرئيس قيس سعيد يطالب “بإقامة الحدّ” على كل من زلّت يده أو لسانه أو ضميره و يتبع من خلال ترسانة المراسيم التي يحبرها في الهزيع الأخيرمن الليل سياسة “موعد مع الحرب” التي أصبحنا ندرك أنها مجرد فذلكة رئاسية مملّة. تونس اليوم على شفير الحرب الأهلية و الفوضى العارمة و عدم الاستقرار و المواطن يتابع فيلما سورياليا اسمه “سقوط هيكل الدولة” و هو باهت غير مصدّق أن هذه “آخرتها”.
بقلم أحمد الحباسي
ثورة الجياع في تونس هي عبارة بدأت عدة أقلام و منابر إعلامية داخلية و خارجية تتحدث عنها بقوة و لعل الاحتجاجات التي خرجت ليلة الخميس بدوار هيشر من ولاية منوبة (و لئن لا يمكن اعتبارها مقتطعة الصلة بسابقاتها حتى قبل سنة 2011 بل هي تكملة لها و أحد حلقات المد و الجزر بين مطالب الشعب المغتصب إرادته و ثروته و مستقبله و بين حكومات عميلة فاشلة فاسدة) فإنها تؤكد مرة أخرى أنها لم تكن انتفاضات سياسية محضة و من أجل الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية بل كانت انتفاضات شعبية اقتصادية لها شق سياسي دون شك.
مرة أخرى يجد المتابعون أنفسهم أمام شارع ربما دخل في المحظور بالتعامل بعنف و غوغائية مع القبضة الأمنية المتهالكة و مع الأملاك العامة و الخاصة و مرة أخرى تثبت الحكومة الحالية فشلها الصارخ في التعامل مع الأزمة الاقتصادية بحيث لن نستغرب إن شهدنا وجود حالات عدم ضبط نفس أمنية تؤدي إلى رصاصات طائشة أو مواجهات دامية تخلف بعض الضحايا.
المرحلة الأخيرة قبل الانهيار الاقتصادي الكامل
من الواضح أن الحكومة تفتقر إلى بوصلة اقتصادية و سياسية و اجتماعية لإدارة الأزمة التي تواجه البلاد و أن عليها مسابقة الزمن لمواجهة كافة الطوارئ و إلا فان الأمور ستخرج على السيطرة تماما بحيث ستتجه إلى حالة عارمة من الغضب و الغليان لا يمكن لأحد توقع ارتداداتها و تدخل البلاد في دوامة من العنف و الإرهاب و التخريب.
لعله ليس من المبالغة اليوم أن نؤكد أن تونس قد وصلت للأسف الشديد إلى المرحلة الأخيرة قبل الانهيار الاقتصادي الكامل و هذا الأمر سيؤدى طبعا إلى إعلان إفلاس كثير من المؤسسات و اختفاء السلع و تصاعد نسق الاحتكار بصورة جنونية و إغلاق المؤسسات البنكية و تزايد نسبة العنف و الجرائم.
عندما يدخل مواطن إلى مؤسسات الدولة أو معترضا ممتلكات المواطنين حاملا سلاحا أبيض أو قارورة مولوتوف حارقة ليختلس بعض الأموال أو بعض السلع التموينية فلا شك أن ذلك الفعل الانتحاري دليل على فساد كامل المنظومة التي تدير البلاد.
في الحقيقة نحن نعيش تعطيلا و عطلا مدبّرا من سيادة رئيس الدولة القابض على كل السلطات المتسلط باسم قناعات شخصية محنطة لا علاقة لها بواقع البلاد و بطموحات الأغلبية. بالنسبة للسيد رئيس الصدفة و علامات الاستفهام قيس سعيّد فإنه لا حرمة إلا لطموحاته الشخصية و آرائه الاستبدادية و عناده غير المحدود كل ذلك على حساب الوطن و على حساب مستقبل شعب جائع.
لقد شاهدنا هذه “الثوابت” عند فرضه تعيين صبي سياسة نكرة يدعى هشام المشيشى و نعرف ما آلت إليه الأمور نتيجة هذه السقطة الرئاسية في سوء الكاستينغ و شاهدنا نبذة من هذا العناد عند تعيينه لرئيسة الحكومة الحالية نجلاء بودن الغائبة على الوجود و آخر التجليّات السلبية الأزمة الدبلوماسية مع المغرب و انهيار العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية إضافة إلى حالات المدّ و الجزائر في العلاقة مع الجزائر و ليبيا و مصر و دول الخليج.
الرئيس عاجز و فاقد للسيطرة على مجريات الأحداث
ما نلاحظه أن الحريق آت عن قريب و لم يعد محصورا في مكان أو في جهة واحدة و أن الرئيس يبدو عاجزا مشلولا و فاقدا للسيطرة على مجريات الأحداث و غير قادر على استنباط حلول مناسبة قادرة على إنقاذ البلاد من الفوضى .
هل نبقى نواجه بالقول بأننا نبحث عن السبل أو عن الخطط ونضع المدد الزمنيّة و نترك مهمة لجم وحش الغلاء الذي يستبدّ بالتونسيين عبر المتاجر والمحلاّت بلا رحمة ولا أخلاق و هل نتجاهل الدينار الذي فقد قوّة شرائه وقدرة تواجده؟
كيف للمريض في هذه الحالة أن يتناول دواءه بحال استمرار الغلاء على تصاعده و من أين يأكل الناس وقد بدأنا نرى مشاهد تأباها أخلاقنا لحشود تعيش من الزبالة ؟
ماذا سيوقف جائعا محبطا فقد كل مقومات المقاومة الذاتية و متى ينتبه الرئيس إلى كونه قد فقد السيطرة و بات شخصا غير مرغوب في رؤيته و أفكاره التي لا تتعدى الانطباعات و النزوات التي تكلف البلاد مزيدا من العزلة على كل الأصعدة ؟
ألم ينتبه الرئيس بأن العالم يعيش اليوم ارتجاجا اقتصاديا و ماليا و أخلاقيا كبيرا ضمن حرب كونية بين الدول الكبرى كما هل انتبه سيادته أن في هذا البلد المغتصب مافيات خطيرة متحكمة بكل دواليب الدولة تتعمد القبض على إيقاع أنفاس التونسيين صعودا و هبوطا بوحشية غير مسبوقة حتى بات الحصول على لتر من الزيت على سبيل المثال حدثا تاريخيا مهمّا ؟
حكومة ألقت السلاح أمام لوبيات الفساد
لقد وعدنا سيادة الرئيس بمحاسبة الفاسدين في إطار قضاء ناجز و سلطة مركزية كاملة الإرادة كما وعدنا بالوقوف إلى جانب “الزوّالى” و تمكينه من كرامته المهدورة و استرجاع حقه في الحياة بعد أن تعددت قوارب الحرقة إلى بلاد الطليان مخلفة كثيرا من الآلام و المآسي و الفواجع. كلها بقيت مجرد وعود نكثها الرئيس بلا مبالاة عجيبة مفضلا إضاعة الوقت في نحت دستور على المقاس يجعل منه مستبدّا آخر.
إن قتامة المشهد يؤكد أن الحكومة قد ألقت السلاح أمام لوبيات الفساد و التهريب و أن وزير الداخلية الذي يجوب شوارع العاصمة للتبجح و نفض ريشه أمام عدسات الإعلام قد أثبت أنه غير قادر حتى على تقديم تقرير وحيد يتعامل مع ما يحدث في البلاد بصفة موضوعية لأن الوضع قد بات على حافة الانفجار و أن لوبيات الفساد قد باتت تمثل سلطة فاتقة ناطقة في البلاد على مرأى و مسمع بل ربما إذعان و تواطىء بعض الأجهزة الأمنية نفسها.
لقد آن الوقت لعملية جراحية تضع حدّا لهذا النزيف و اغتيال وحش الفساد و إذا لم يتم ذلك فكل التحذيرات لن تنفع .بطبيعة الحال تزداد المخاوف حين نتذكر أن الحكم الحالي هو من صمت حين وجب أن يصرخ و من تجاهل ألسنة الحريق حين صاح الجميع و حين ندرك أن سيادته لا يملك لا إستراتيجية سلام مع الأغلبية المسالمة و لا إستراتيجية حرب مع القلّة النكدية الفاسدة التي يمثلها حزب الإخوان و والاه من غلمان السفارات الذين يختزلهم هذا الكيان الهجين المسمى “جبهة الخلاص”.
سيادة الرئيس يطالب بإقامة الحدّ على كل من زلّت يده أو لسانه أو ضميره و يتبع من خلال ترسانة المراسيم التي يحبرها في الهزيع الأخيرمن الليل سياسة “موعد مع الحرب” التي أصبحنا ندرك أنها مجرد فذلكة رئاسية مملّة.
تونس اليوم على شفير الحرب الأهلية و الفوضى العارمة و عدم الاستقرار و المواطن يتابع فيلما سورياليا اسمه “سقوط هيكل الدولة” و هو باهت غير مصدّق أن هذه “آخرتها” كما قال الراحل معمر القذافى في خطابه الأخير.
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك