“عصام بوقرة من جيل ابنيّ الأولين يزيد وهاشم .. عرفتُه صبيا في عبث الطفولة معهما .. أيام القيروان.. بعد أن عرفت أباه عبد الجليل الذي كان تلميذي وصديقي في أواسط السبعينيات عندما كان شباب البكالوريا في مستوى وعي رئيس حزب من أحزاب اليسار على أيامنا هذه .. كنّا من جيل المدرسة التي تَصادق فيها الأستاذ والتلميذ .. وتلازما ..
” أعرف عبد الجليل بوقرة وفارس بوقرة كما لم أعرف أحدا من أهل القيروان، أيّام كنا نتجادل في القسم وخارج القسم حتى ساعات متأخرة من الليل أحيانا .
ثم عرفت عبد الجليل باحثا وأستاذا في أواسط الثمانينيات .. بعد أن أصبح أيضا أبا لشبلين ناشئين بسام وعصام. كان عصام نبيها طريفا في سلوكه، كثيرا ما يأتيك بملاحظات لا تتوقعها حين تظنه زاهدا عنك غير منتبه إليك. باعدت الأيام بيننا وبين عائلة عبد الجليل بحكم ظروف العمل وإن كنا نتراسل فكريا بصفة لم تنقطع تقريبا.
“كبُر عصام بوقرة واستكمل تكوينه في تونس وفي أمريكا ورجع إلى وطنه مبدعا فنانا سينمائيا رسم لنفسه ولثقافة بلاده أحلاما وآمالا وآفاقا شرع في تنفيذها بطرافة مقارباته التي مكنته من أن يشرع في ابتداع معجم سينمائي خاص وواعد.
“عصام هو اليوم في محنة : طال حبسُه دون محاكمة. يكاد المرء يظن جرمَه من جنس الجرائم بل الجنايات الكبرى .. ولم تثبت الابحاث عنه أي نية ولا ممارسة خطيرة .. ربما اطمأنّ إلى نفسه لأنه كان يعلم أن استهلاكه لم يكن يتعدّى شخصه، وما كان عصام من المتعوّدين ولا من العائدين.
لكن عصام بوقرة هو اليوم واحد من أبطال تونس أيضا: فهو بحصوله على جائزته التي تسلمها نيابة عنه أبوه عبد الجليل منذ يومين قد رفع رأس تونس في وقت عصيب عليها .. لا أخفيكم أني تألمت كثيرا لأنني كنت أقدر الوجيعة التي كان صديقي وأخي عبد الجليل يكتّمها في داخله في ذلك الموكب. هل كان سيكون خرقا لقوانين الدنيا أن يُمكَّن عصام من أن يتسلم هو نفسه جائزته، في قوس محدود من الحرية يُرجع إليه بعض الأمل ..
” ليس من اللائق بتونس أن تعامل عصام بوقرة، المخرج السينمائي المبدع والمتوج، هذه المعاملة المدمّرة .. وهل أكثر تدميرا من التجاهل والنسيان؟ بل قد يكون من الأليق ببلادنا أن تتصرف تجاهه بروح التسامح معه والاعتراف له، والتخفيف عليه، وتمكينه من الرجوع إلى المجال الذي أبدع فيه : ما المقصود بالإجراءات الجزائية في العادة؟ وما فائدتها إن لم تكن تيسير تحويل الخطإ لا فقط إلى إقلاع عنه ولكن إلى إبداع يعوض عنه ويتجاوزه؟ هل أكثر دلالة على هذا التجاوز من تتويج عصام بوقرة بجائزة دولية عن عمله السينمائي الأول؟ سيكون إطلاق سراح عصام بوقرة من علامات روح جديدة في التعامل مع خطإ لم يتعد حدود صاحبه ولم يتسبب به في مضرة أحد.
عصام بوقره يستحق فعلا تقديرا يسمح بالتجاوز عن خطئه، لاسيما وأنّ النظم القضائية المقارنة ليست متفقة حتى على تكييفه وعلى مدى الشدّة في التعامل معه.
محمد أبو هاشم محجوب
5 سبتمبر 2022″.
شارك رأيك