تونس تحتاج اليوم إلى حماية موروثها الأمني على أساس معنوي وأخلاقي، وإلى نقل القيم والمعايير، وفحص الماضي لتشكيل الرابطة الفعلية بين الأجيال وضمان الهوية وبناء الجسور. القضية لا تقف في التقاليد عند الاهتمام بقوة الرمز، وتحية العلم، واحتفالات الترقية، والشعارات والزي والأناشيد واحتفالات التخرج والمآدب المناسبتية وغيرها، بل تتعدى ذلك للعمل على تكييف الموجود وإعادة ابتكاره في سياق بناء تقاليد الغد.
بقلم محسن بن عيسى
ليس في مصلحة الدولة أن يتسع نطاق الابتعاد عن التقاليد داخل الأسلاك الأمنية، فلقد مرت بهذه الظاهرة دول لها قوتها وتاريخها وعانت مؤسساتها النظامية من المبالغة في إضفاء الطابع المدني أو إجلال القيم المدنية بداخلها. لا شك أنّ التحدّيات القائمة التي تواجهها الأجهزة الأمنية ترتبط بالتهديدات والتطورات وتجعل من فلسفة القيادة والتكوين والبناء المؤسساتي في صدارة الاهتمامات. هل نحن بحاجة إلى أن نذهب أبعد من ذلك؟
تداعيات السياسة الهجينة
الكل يعلم أنّ المؤسسة الأمنية بعد 2011 كانت ضمن المؤسسات الرسمية الأكثر استهدافا. فالرؤية الجديدة كانت تعتقد في إمكانية التقدم من خلال إعادة هيكلة المجتمع بشكل كامل وإحداث تغيير بعيد المدى في المؤسسات القائمة.
لقد عبرت وزارة الداخلية المرحلة الانتقالية وعرفت هذا المنعطف الحاد واكتشف الجميع أنها تتبع فعلا تاريخ الجمهورية في مجده وتراجعه. واكتشفنا بالتوازي أن المجتمع الذي نعيش فيه، مجتمعٌ “تعددي” بين ظفرين ولا ينظر إلى الأحداث والمؤسسات التاريخية بنفس المعيار، ولا تُستخلص فيه الدروس المستمدة من التاريخ بنفس القيمة والوعي.
لقد نسينا أو تناسينا بحكم “السياسة الهجينة” التي اعتمدت في ذلك التاريخ أنّ القوات النظامية هي خلاصة عقود عدّة من التطور السياسي والاجتماعي والثقافي رغم نقاط الضعف فيها، وأننا نرتكب خطأً كبيرا عندما نحاول أن نجعلها على صور هياكل بعض الدول في المطلق ومع اختلاف الواقع وتفاوت عمق التجربة. لقد سقط النظام السابق ولم تسقط الداخلية رغم الارباك الذي حصل داخلها، ووقف التحول الديمقراطي في حدود معينة من الانفراج السياسي ولم تنتكس العقيدة الأمنية ولم تعبر الأسلاك عن تمردها ضد تقاليدها والرغبة في التحرّر منها.
لنعترف أنّ تصويب المسار الأمني تأخّر أكثر من اللزوم في خضم حالة التسيب العامة ويبدو انّ التقاليد النظامية أصبحت ضعيفة التأثير داخل الأسلاك وأنّ مبدا الإدارة المدنية يتسلل شيئا فشيئا ويزداد رسوخا وتعزيزا.
حماية الموروث الأمني
إنّ ابتعاد المؤسسة الأمنية مع العسكرية عن العمل السياسي العام، وابتعاد قياداتها عن الانتساب إلى الأحزاب والتنظيمات السياسية، كان تقليدا راسخا من تقاليد الأسلاك منذ نشأتها. فالمشاركة في العمل السياسي العام والانتساب إلى أحزابه وتنظيماته، لا يضيف بالنسبة إلى المؤسسة الأمنية إلا الانقسام والتشرذم في الراي ثم في السلوك، ويفقدها وحدة صفها ووحدة إرادتها وبالتالي كفايتها في أداء الوظائف الخطيرة المناطة بعهدتها.
المؤسسة الأمنية بثقافتيها (الحرس والشرطة)، هي مستودع التقاليد التي يعود تاريخ البعض فيها إلى حقبات بعيدة، وهنا يكمن اختلافها مع الإدارة المدنية والمؤسسة الصناعية ومختلف الجمعيات. قد نتفهم صعود العمل النقابي في بعده الاجتماعي بعد 2011، ولكن نأسف لإهمال روح التقاليد الأمنية التي ألهمت العديد من الكتاب لفك رموزها ومعانيها وأدوارها وأسسها.
نحن في حاجة إلى حماية الموروث الأمني على أساس معنوي وأخلاقي، وإلى نقل القيم والمعايير، وفحص الماضي لتشكيل الرابطة الفعلية بين الأجيال وضمان الهوية وبناء الجسور. القضية لا تقف في التقاليد عند الاهتمام بقوة الرمز، وتحية العلم، واحتفالات الترقية، والشعارات والزي والأناشيد واحتفالات التخرج والمآدب المناسبتية وغيرها، بل تتعدى ذلك للعمل على تكييف الموجود وإعادة ابتكاره في سياق بناء تقاليد الغد. فالسلطة سائرة إلى الزوال، ولكن القيم هي الباقية إلى الأبد.
لا اميل كثيرا إلى التعابير السياسية ” التغيير” ” الثورة” وغيرها والتي تحمل دلالة أو تظهر الرغبة في القطع مع النظام القديم الذي يتمثل في المؤسسات. فالتغيير غيّر أحوال البلاد إلى الأسوأ، والثورة أصبحت تعكس الفوضى والفتنة.
إنّ أكبر معالم استفحال الأزمات الأمنية هو ضعف ثقافة المؤسسات وانتصاب هياكلها بغير مضامين وفاعلية.
ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك