لقد سيطر التعامل العاطفي على ما سمي بمأساة جرجيس، من طرف سكان جرجيس بحكم اللوعة في فقدان أبنائهم و عدم التمكن من تقبل التعازي فيهم ثم دفنهم بعد استيعاب الحداد عليهم؛ و من طرف الإعلام الذي وجد في هذه الحادثة التي تحصل للمرة المليون فرصة لتحقيق أرفع نسب المشاهدة.
بقلم محمد صالح الحمايدي
كل التناول الإعلامي و السياسي لما يحدث هذه الأيام في جرجيس، رغم فضاعته من الناحية الإنسانية، مغلوط. لقد حول الجميع قضية “الحرقة” إلى قضية عاطفية حول غرقى لم تبذل الدولة مجهودا للبحث عن جثامينهم في أعماق البحر (حسب رواية سكان جرجيس) و عن الأخطاء التي ارتكبت في التعرف على الجثامين التي تم انتشالها بواسطة تحليل الحامض الجيني (ADN) و دفن البعض منها في مقبرة الغرباء المخصصة للغرقى الذين يتم انشالهم من غير التونسيين.
لقد سيطر هذا التعامل العاطفي على أصل القضية، من طرف سكان جرجيس بحكم اللوعة في فقدان أبنائهم و عدم التمكن من تقبل التعازي فيهم ثم دفنهم بعد استيعاب الحداد عليهم (faire leur deuil)؛ و من طرف الإعلام الذي وجد في هذه الحادثة التي تحصل للمرة المليون فرصة للـbuzz و تحقيق أرفع نسب المشاهدة و الاستماع و قبض أموال الإشهار.
أما رجل السياسة المعارض فوجد فيها، بكل انتهازية، فرصة لنقد النظام القائم، و كأنها حدثٌ مستجدٌ لم يحصل من قَبْلُ في تونس !
و أخيرا السياسي الماسك بالسلطة الذي انظم إلى الجوقة مُكرهًا، بعد مدة من الزمن، كي يمتص غضب أهالي جرجيس و يظهر بمظهر الغاضب عما حدث، واعدا بفتح تحقيق في الغرض، كالعادة، و هو التحقيق الذي سيقبر متحللا كما قُبر من انتُشلت جثامينهم.
ما حدث لـ 18 حارقا في سواحل جرجيس يوم 27 سبتمبر، حدث مئات آلاف المرات لمئات الآلاف التونسيين على مدى الثلاثة عقود الماضية بمساعدة الأولياء الذين يوفرون أموال ركوب قوارب الموت لأبنائهم، و لم يحدث أي شئ، باستثناء تصريح رفيق بوشلاكة الشهير الذي قال فيه : “نجحنا في استخراج ثلاث جثث، لكنها كانت، للأسف، متوفاة”.
غرق قوارب الموت و عدم انتشال الضحايا ليست السبب و إنما هي النتيجة. السبب هو البطالة و الفقر و التهميش و انعدام الأفق أمام الشباب و الكهول و فقدان الثقة تماما في من حكموا و يحكمون البلاد منذ العشرية الأولى للقرن الحالي، بنسبة أقل، و بتزايد هذه النسبة ابتداء من العشرية 2011-2020، ثم تفاقمها ابتداء من منتصف 2021 عندما تجمعت كل السلط في يد الرئيس قيس سعيد. فغرقت البلاد في أزمة سياسية و مالية و اقتصادية و اجتماعية زادتها جائحة الكوفيد و الحرب الروسية-الأوكرانية تأزما، فتفاقمت البطالة و تدهورت القدرة الشرائية لكل الشرائح الاجتماعية و كنتيجة لذلك فُقِدَتْ الأدوية و المواد الأساسية للاستهلاك اليومي من الأسواق، فشهدت ظاهرة “الحرقة” تحولا نوعيا، حيث لم تعد تنحصر في الشباب المهمش و العاطل عن العمل، لتنتقل إلى الكفاءات و المشتغلين و إلى عائلات بأكملها، الزوج و جوزته أبناؤه القُصَّر بمن في ذلك الرضع.
لذا، لنكن عقلانيين، على الأقل نحن كصحافيين و رجال سياسة، في الحكم و في المعارضة، و كمجتمع مدني… و نكف عن التبتاكي على جثامين لغرقى عجزنا، لسبب أو لآخر، عن العثور عليها في قاع البحر بعد أكثر من أسبوعين من البحث بالوسائل المتاحة لدينا (و لا أريد هنا أن أقول أن الشاة لا يهمها سلخها بعد ذبحها)؛ و لنبحث، بكل جدية، عن السبل التي لا تضطرنا إلى ركوب قوارب الموت أصلا، مستقبلا. و هذه السبل لا تتمثل، قطعا، لا في الشركات الأهلية و لا في وهم الأموال المنهوبة و لا في محصول العفو الجبائي.
الحل عند الخبراء من الكفاءات التونسية الحقيقية التي لا تعتبر مؤسسات الترقيم السيادي للدول و لمؤسساتها الاقتصادية “أمك صنافة”.
حاصل على الماجستير في القانون. رئيس مدير عام لعديد المؤسسات العمومية. خبير دولي في قانون تعديل الأسواق المالية.
شارك رأيك