ربما رفع التونسيون أيام ما سمي بثورة الياسمين شعار لا للديكتاتورية لكنهم يستفيقون اليوم و بعد مرور أكثر من 11 سنة على حقيقة أنهم غيروا نظام الاستبداد بنظام هجين آخر قوامه الفساد.
بقلم أحمد الحباسي
بطبيعة الحال كان لنظام الاستبداد أعوانه و بطانته و منفذيه و محبيه و المنتفعين منه و اليوم نجد أن الشيء نفسه ينطبق على دولة الفساد التي تنطلق بحظوظ وافرة و ظروف مواتية لتصبح أول دولة فساد تلغي مؤسسات و هيبة الدولة و تقدم نفسها للعموم على كونها الوحيدة المتحكمة في اقتصاد البلاد و في لقمة عيش التونسيين.
لا أحد اليوم قادر على تقديم دليل واحد على أن هناك دولة و أن هناك مؤسسات تحكم و قرارات قادرة على وضع حدّ لهيمنة دولة الفساد و الفاسدين. في هذا السياق لا فائدة في إرهاق ذهنية المواطن المنهك بأرقام نمو ظاهرة الفساد و “تقدم” تونس في أعلى مراتب الدول التي ينخرها الفساد و التي يعتبرها المانحون اليوم أطلال دولة مفلسة.
هيمنة دولة الفساد
في تونس اليوم هناك دولة فساد ترفع شعارا واحدا واضحا هو الاحتكار ثم الاحتكار ثم الاحتكار.
بالمقابل هناك بقايا دولة منهكة متهاوية يقودها شخص فشل حتى في استثمار الانقلاب الدستوري الذي قاده ليلة 25 جويلية 2021 و بات مجرد سجين لأفكاره المثالية داخل قصر لا يؤمه أحد من قادة العالم أو شخصيات داخلية رصينة و متمرسة قادرة على إعطاء النصح لهذا الهاوي في علم السياسة و قيادة الدول.
دولة الفساد (ما شاء الله و لنمسك الخشب) قدرت فى بعض السنوات القليلة و خاصة بعد هذا الانقلاب الدستوري أن تنشأ دولة قوية متماسكة تتحكم في كل مصادر الثروة و تخزن مستودعاتها ملايين الأطنان من الأغذية الحيوية المختلفة حتى باتت تتحكم في رقاب المواطن بحيث تفرض عليه نسقا جنونيا من ارتفاع الأسعار و تجعله يلهث لهث الكلاب العطشى ليظفر بقنينة زيت أو ما شابه من متطلبات غذائه اليومي.
المثير في المسألة أن الدولة “الأصلية” قد باتت “تقترض” المئونة من دولة الفساد المارقة بالقيام بحملات اعتراض مئات الشاحنات التابعة للفاسدين دون أن تفلح في قمع الاحتكار رغم القوانين و المراسيم.
الفساد كغيره من الأعشاب الطفيلية لا ينمو إلا في تربة منسية و لذلك ترعرع الفساد و أشتد عوده حتى بات الجميع يتحدثون اليوم عن دولة فساد قائمة الذات و إذا سلمنا بأن القضاء ينخره الفساد فمن المؤكد أن نصل إلى قناعة أن الدولة قد فشلت في لعب دورها الاجتماعي و الاقتصادي على وجه الخصوص و هو ما يتجلى في هذا الغياب الحكومي التام الذي يلاحظه المواطن على كل المستويات.
لعل السؤال الأبرز هو من يقف وراء دولة الفساد و من أين تأتي المليارات الخيالية التي يتم ضخها في ممارسة التهريب و الاحتكار و كيف يمكن تصور أن دولة تحترم نفسها لا تملك معلومات عن إمبراطورية الفساد في تونس و هل أن الأمر يتعلق بفشل و قصور في الأداء الحكومي أو بسبب غياب إرادة الرئيس في استنباط مشروع و مخطط كامل قادر على مواجهة أخطبوط الفساد و تعقب أموال الفاسدين؟
سؤال آخر يتعلق بالأسباب الوجيهة التي دفعت رئيسا يدعي محاربة الفساد إلى إغلاق الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد و لماذا لم يقم سيادته بطرح مؤاخذاته على الرأي العام قبل إصدار قرار الغلق و هل ارتكب أعضاء الهيئة جرائم أو أفعال و كان من المنطقي مؤاخذتهم قضائيا ؟
مؤشر الفساد يأخذ منحى تصاعديا
تفيد كل المؤشرات و الدراسات أن مؤشر الفساد يأخذ منحى تصاعديا مثيرا للانتباه و الحيرة الأمر الذي كرس حالة من تراجع الثقة في قدرة الدولة أو لنقل إرادتها الفعلية و الجادة في محاربة هذه الآفة المدمرة لمعالم الدولة و مؤسساتها و اقتصادها. لا بد من الإشارة و التأكيد أن هناك حالة عامة من فقدان الثقة في سلطة الدولة و بالأحرى في رغبتها في تغيير الأوضاع إلى الأحسن تدريجيا بل هناك قناعة متصاعدة بأن الرئيس قد أصبح عقبة في محاربة الفساد لعدم ملكيته لأي برنامج فعلي في هذا الصدد و لتكوينه لحكومة أشباح مرتبكة و فاقدة لأي تصور ملموس لمعالجة كافة المشاكل التي تواجه المواطن و من أهمها استشراء الفساد في كل مرافق الدولة.
لقد استشرت حالة الفساد و ضربت الأرقام القياسية في عهد الرئيس قيس سعيد رغم استحواذه على كل السلطات و قد انغمس في هذه الظاهرة كثير من رجال الدولة على كل المستويات و طالت المجالات كافة قطاع الاستثمار بما فيها قطاع البنوك و تهريب الأموال و تجارة المخدرات و الدعارة و طال الفساد عدة مؤسسات إعلامية و ثقافية و تعليمية و ملف الشهادات العلمية المزورة دليل على حجم الكارثة.
بعد مرور أكثر من ثلاثة سنوات على حكم الرئيس قيس سعيد و أشهر عديدة على تنصيب حكومة تسيير الأعمال برئاسة السيدة نجلاء بودن يبدو أن الوضع يسير نحو الكارثة و نحن إعلان تونس دولة منكوبة. ليبرز السؤال لماذا لا يستقيل السيد الرئيس و يسمح بانتخابات رئاسية مبكرة و في أقصى الحالات لماذا لا يغير الرئيس طاقم حكومته الفاشلة؟ الثابت و الواضح أن سيادة الرئيس لا يفكر بمنطق العقل بل بمنطق الانقلاب و منطق الانقلاب يجعله يسير بعيدا عن مشاغل المواطن ليهتم بكيفية مزيد وضع قبضته على مفاتيح السلطة.
إن الرئيس اليوم يريد أن يجعل من تونس إمارة بمقومات “اقتصادية” أخرى و محاولته تركيز تلك “التعاضديات” المثيرة للسخرية دليل على أن الرجل قد بات فاقدا للوعي بالحقيقة بعد تلقيه جرعات زائدة من النفوذ و التحكم في مقاليد الدولة جعلته لا يرى إلا ما يراه وهي بداية الذهاب نحو المجهول.
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك