الشيء الخطير جدا في تونس اليوم هو مطاردة و محاصرة قادة الرأي و الفكر الحر و نعتهم في بعض الأحيان بأبشع النعوت و تشويه و تحريف مقاصد كلامهم و اختبارهم و كأنهم “مفسدين للشباب” و لعقول الناس و هي تهمة قديمة وجهت في غابر الأزمان للحكيم سقراط عندما كان يعلم الناس فن التفلسف و الحجة و الإقناع بعيدا عن السفسطة و الحديث في كل شيء.
بقلم ياسين فرحاتي
في الوقت الذي انطلقت فيه حملة المترشحين للانتخابات التشريعية في 17 ديسمبر المقبل، و عددهم 1055، تتباين الآراء كثيرا بشأنها بين مؤيد و رافض لها جملة و تفصيلا و داع إلى تأجيلها، ; يعرف المسار الديمقراطي هزات بعد الإعلان عن إيقافات طالت عددا هاما من الأمنيين النقابيين و الإعلاميين و الحقوقيين بحسب مصادر إعلامية تونسية و السبب التآمر على أمن الدولة واستهداف رئيس الجمهورية قيس سعيد بالدرجة الأولى و قد أحيل جميع المتهمين على النيابة العمومية. و علينا أن ننتظر سير التحقيقات في قادم الأيام و الأسابيع.
قطاع الإعلام تحت الوصاية و الرقابة
هذا المنعرج الخطير الذي تشهده البلاد لا يبشر بخير بالنظر إلى الوضع الإقتصادي المتأزم و حجم المشاكل الإجتماعية المتراكمة منذ سنوات، أضف إلى ذلك الاصطفاف و التخندق السياسي و هذا ليس بالجديد لكن ماهو جديد و مقلق حقا و نحن نعيش في حالة خوف على بلادنا رغم أننا منذ أيام قليلة كنا نجحنا في تنظيم القمة الفرنكوفونية في دورتها ال18. و تبقى مسألة جني ثمارها اقتصاديا هي الأهم و رغم أن المنظمة تدعو و تعمل على نشر السلم و الأمن و قيم الحرية و العدالة إلا أن ما نراه و أنا لا أملك معلومات ضافية و شافية عن التجاوزات لكن أرى ذلك بعين الملاحظ و المتابع عن كثب، فمثلا منذ أيام قليلة صدر تصريح للمكلفة بتسيير مؤسسة التلفزة التونسية عواطف الدالي الجازي بخصوص عدم دعوة الهايكا إلى مقر التلفزة أجابت بأن الأمر يتعلق بقرار من السلطات العليا في الدولة التي ترفض ذلك. مما يعني أن قطاع الإعلام بعد ثورة الحرية و الكرامة لا يزال تحت الوصاية و الرقابة. و هذا أمر مألوف فدائما ما كان الإعلام العمومي تحت قبضة السلطة الحاكمة و يقصي المعارضين و هو بوق الدعاية لمشاريعها و مخططاتها رغم أنه يمرر أنشطة المعارضة من فترة لأخرى و إن بطريقة فيها انحياز واضح للطرف الغالب و كأن الاعلام هو الطرف المغلوب المطالبة بالاقتداء بالطرف المنتصر.
الشيء الخطير جدا هو مطاردة و محاصرة قادة الرأي و الفكر الحر و نعتهم في بعض الأحيان بأبشع النعوت و تشويه و تحريف مقاصد كلامهم و اختبارهم و كأنهم “مفسدين للشباب” و لعقول الناس و هي تهمة قديمة وجهت في غابر الأزمان للحكيم سقراط عندما كان يعلم الناس فن التفلسف و الحجة و الإقناع بعيدا عن السفسطة و الحديث في كل شيء.
التهم الظالمة للدكتور أبو يعرب المرزوقي
أقصد من كلامي هذا ما يواجهه الفيلسوف التونسي المعروف و المحسوب على التيار الإسلامي أبو يعرب المرزوقي منذ شهر جوان و إلى الآن من تهم ظالمة و غير مشرفة لنا كوننا نهين أبرز رجال الثقافة و أساتذة الجامعات الذين نهلوا من أعرقها في الغرب و الشرق و أسهموا في تحقيق النهضة الفكرية و الفلسفية للإنسانية. و لو فرضنا و هذا أمر واقع أن الدكتور أبو يعرب متعاطف جدا مع النهضة و مع الغنوشي لكنه لاقى تقريبا نفس المعاملة تقريبا مع نظام بن علي في السابق مما اضطره للهجرة إلى ماليزيا و هناك لقي كل الترحيب و التقدير حيث درس في أرقى جامعاتها.
أما اليوم، فهو رجل قد تقدمت به السن نوعا و لم يعد قادر لا على التظاهر و لا يستحق التنكيل به فليس له من سلاح سوى قلمه اللاذع في حدود الأدب و الحضارة و فكره المتقد و لكن يبدو أن منظومة 25 جويلية يزعجها و يقلقها ذلك كثيرا فضاقت به ذرعا و هذا يذكرني إلى حد كبير بما يواجهه المفكر المشهور و عالم اللسانيات ناعوم تشومسكي في بلاده جراء الانتقادات التي يصب فيها جام غضبه على السياسة الخارجية الأمريكية لكنه في المقابل لا يتعرض للمحاكمة و لا يقاد إلى المحاكم مثلما هو الحال عندنا.
تونس بلد صغير، و ليس له من مخزون أو ثروات سوى زاده البشري من الكفاءات الأكاديمية و أنا أكرر في كل مرة نواجه فيه وضعا مشابها صعبا أن ما يجمعنا هو وحدة المصير و أن مستقبل بلادنا نبنيه معا في إطار فلسفة التنوع و الاختلاف و التضامن كما يؤكد على ذلك فيلسوف تونسي آخر كبير هو فتحي التريكي و هو قد يكون غير متفق أو متناغم تماما مع أفكار زميله المرزوقي لكنهما يدعوان إلى الحرية و إلى التعقل و العيش المشترك.
التخفيف من حدة التوترات
إن جرأة تدوينات و مقالات البروفيسور أبو يعرب و خطورتها سياسيا كونها تشخص الواقع بدقة و تفسر تطور الأحداث بطريقة منطقية و موضوعية و فق منهج جدلي و تقدم سيناريوهات تراها السلطة الحاكمة مرعبة و مخيفة و خارجة عن السائد و هو ما تجعل من كتاباته قراءة للمستقبل السياسي برؤية ثاقبة و فاحصة هي عين المفكر الناقد ذي البصيرة و هذا ليس بالغريب عنه كونه درس جيدا الفلسفة الاجتماعية للعلامة ابن خلدون و تعمق فيها إلى جانب استعانته بالفكر الديني.
ما أراه مهما لرأب الصدع هو التخفيف من حدة التوترات و لا بد من سياسة ضبط النفس للجميع و أولها بالنسبة للسلطة لتفادي خطر الانفجار الاجتماعي الذي لا تحمد عقباه و أن البناء لا يكون إلا على مائدة الحوار لتسوية أي نوع من الخلاف مهما كانت خطورته.
كاتب من تونس.
شارك رأيك