لماذا لا تتغير النظرة التونسية لدار الإفتاء؟ ولماذا تبقى هذه الدار محصورة في شيوخ كبار السن لا يقوون على التحرك الميداني ولا يلقون المحاضرات والدروس والخطب التي تفيد الناس وتغرس فيهم روح الإيمان (تحوّل رئيس الجمهورية قيس سعيّد،الجمعة 23 ديسمبر 2022، إلى مسجد جامع الزيتونة أين أدى صلاة الجمعة والتقى بالشيخ هشام بن محمود، الإمام الأول للجامع و المفتي الجديد للجمهورية.)
بقلم فوزي بن يونس بن حديد
درجت العادة في تونس أن يكون مفتي الجمهورية التونسية كبير السن، ولا يظهر للعيان إلا في يومين، اليوم الذي يسبق شهر رمضان ويعلن فيه بداية شهر رمضان المبارك واليوم الثاني هو اليوم الذي يُعلم فيه التونسيين بحلول عيد الفطر المبارك والإعلان عن قيمة زكاة الفطر، وهناك يوم ثالث يتعلق بعيد الأضحى المبارك قد يظهر المفتي فيه أولا يظهر إن كان الأمر متعلّقا بالبقاع المقدسة حيث تُقام فريضة الحج، فتتبع الدولة التونسية ما تعلنه المملكة العربية السعودية من بداية شهر ذي الحجة ويُعتمد ذلك رسميًّا في الجمهورية التونسية، وقد يظهر مُفتينا أيضا في بعض المناسبات الدينية التي تُحييها الدولة كالمولد النبوي الشريف وليلة القدر وغيرهما.
المواصفات الخاصة لمفتي الجمهورية
وما عدا هذه المناسبات يبقى مفتى تونس متواريا عن الأنظار لا يراه المجتمع التونسي رغم أنه بحاجة ماسة إلى مرشد ديني معتمد من الدولة يكون مرجعا للجميع وقدوة للجميع، ويستأنس بأقواله الجميع، يخدم جميع أطياف الشعب التونسي بمختلف مذاهبهم ومشاربهم، ويفتيهم بما تقول مذاهبهم، فمنهم المالكي ومنهم الإباضي ومنهم الشيعي ومنهم السلفي ولكلٍّ أقواله في المسائل الفقهية المتشعبة، وعلى هذا يكون الاختيار بناء على مواصفات خاصة ينبغي أن تتوافر فيه عندما يتزعّم هذا المنصب، حتى تتغير الصورة النمطية السائدة التي كانت في السابق والتي كانت تُبنى على أن مفتي الجمهورية يُعيّن على مقاييس خاصة تراها الدولة، ويكون فيها تابعا لشهوات الرئيس.
وقد سبق أن رأينا ذلك في عهدي الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، حيث تبيّن للعالم أن المفتي في تونس يُفتي وفق ما يُرضي الرئيس أولا لا وفق الشرع الحنيف في كثير من المسائل التي تتعلق بالأحكام الفقهية، ولما رأى الرئيس الحبيب بورقيبة أن الشيخ الطاهر بن عاشور الذي كان مفتيا في أول عهده لا يسير وفق ما يتمناه عزله من منصبه وهاجم المؤسسة الدينية و قرّر تعديل القوانين الأسرية فاستحدث مجلة الأحوال الشخصية وحظر تعدّد الزوجات وأباح الإجهاض وأغلق جامعة الزيتونة وحظر الحجاب وتتبع المشايخ الذين عارضوا سياساته العلمانية في ذلك الوقت، فعيّن مفتيا يلبي رغباته وينفذ أوامره فكان له ما كان، فأثر ذلك كثيرا على المستوى الديني في تونس.
دور المفتي في الإصلاح والتنوير
وبقي دور المفتي في تونس يستجيب لرغبات رئيس الجمهورية دون الإسهام الفاعل في الإصلاح والتنوير، فالمجتمع التونسي كان ولا يزال يحتاج إلى المفتي المصلح الذي يجوب الولايات ويشكّل الفرق الدينية التي تنشر الفكر المعتدل والتقريب بين المذاهب وتدعو إلى التسامح وتحث الناس على الالتزام بتعاليم الإسلام، الدّين الحنيف، وهو الدّين الذي تدين به الدولة من أقصاها إلى أقصاها، وتحتاج إلى يقوم بثورة دينية تغير النمط البروليتاري للتصرف الأخلاقي في الدين الإسلامي الذي تصوّره شبكات العالم الغربي وتبيّن تخلّفه وتطرّفه وتزمّته نحو مرجعية واحدة دون التعمق في أطرافه المتعددة.
كما تحتاج تونس اليوم إلى مفتٍ شاب، وما أكثر الشباب المثقفين المتمعّنين في الفقه الإسلامي في الجامعة الزيتونة التي لو استمر عملها خلال الخمسين عاما الماضية ولم ينقطع لأنشأت علماء إصلاحيين تنويريين مثل محمد رشيد رضا وأستاذه الشيخ محمد عبده وغيرهم من المفكرين التنويريين الذين قدّموا للأمة الإسلامية الكثير من الأعمال التاريخية وتفسير القرآن الكريم ومسائل تتعلق بالأسرة والدولة والعبادات والمعاملات وغيرها من شؤون الحياة العامة والخاصة التي يحتاجها المجتمع التونسي أكثر من أي وقت مضى.
لماذا لا تتغير النظرة التونسية لدار الإفتاء؟ ولماذا تبقى هذه الدار محصورة في شيوخ كبار السن لا يقوون على التحرك الميداني ولا يلقون المحاضرات والدروس والخطب التي تفيد الناس وتغرس فيهم روح الإيمان بعيدا عن كل ما يعكر صفو الأسرة التونسية أو يفكك وحدتها، وتعزّز إيمان الفرد عبر إرسال نفحات إيمانية قوية تستقر في القلب وتسترجع حياة الأولين الذين غمرتهم البركة ولبسهم الحياء سواء كان من الرجال أو النساء.
شارك رأيك