الناقد العراقي سمير خليل يٌكرم الشاعرة التونسية نائلة عبيد (صورة)

قام الناقد العراقي الكبير الدكتور سمير خليل، بتكريم الشاعرة التونسية نائلة عبيد، وهي من مواليد مدينة المكنين التابعة لولاية المنستير، من خلال نشر مقالة (دراسة عميقة) في صحيفة الحقيقة الصادرة بتاريخ 9 جانفي 2023 ، تحدث فيها عن مجموعتها الشعرية “من قاع الجرح أمد يدي” .

وفي هذا الخصوص كتبت المربية والشاعرة نائلة عبيد على صفحتها الشخصية بموقع فايس بوك: “تكريم آخر يصلني من العراق العظيم من الناقد الكبير الدكتور الكبير سمير خليل..شكرا دكتور شرف نالني وأنا أحظى بدراسة عميقة من قامة نقديّة”.

وأرفقت نائلة عبيد تدوينتها بكامل نص المقالة بإمضاء الدكتور سمير الخليل:

مقالتي عن مجموعة الشاعرة نائلة الزنطور( من قاع الجرح أمد يدي) منشورة في صحيفة الحقيقة ليوم الاثنين 9 كانون الثاني 2023 ،شكرا للجميل الشاعر عدنان الفضلي ولكادر الصفحة……. مكابدات البوح والسؤال عن النقاء (البياض)

في مجموعة (من قاع الجرح.. أمدُّ يدي)

د. سمير الخليل

تتمركز نصوص مجموعة (من قاع الجرح.. أمدُّ يدي) للشاعرة التونسية نائلة الزنطور عبيد الصادرة عن (دار المتن – بغداد 2019) حول نسق من البوح أو الفيض (الذاتي) مؤطراً برؤية تعتمد البياض بوصفه المعادل التعبيري لمعنى الكتابة في درجة العفوية الشعرية، والتطلع إلى عالم عبر منظور العذوبة البدئية سعياً لاستنهاض التوّهج والرسوخ الجمالي والقيمي القائم على مجموعة متضافرة من أسئلة وبنية استفهامية وهواجس البحث عن المعنى الذي يشكّل البؤرة المشعّة و(السايكولوجية) التي تقف عندها الذات الشعرية أو (الأنا الشاعرة) التي تستغرق في مساءلة عالم مكتظ بالرماد، وملّبد بالإلتباس ومحكوم عليه بالتأرجح والقلق والانطفاء ولذا نشعر ونحن نتوغل في نصوص الشاعرة بأنّها تزيح الرماد عن الموجودات والأفكار وتحاول بعث التوق في الأشياء والسكون من أجل تشكيل صورة وامضة مزدهية تشكل كينونة شعرية وتحليقاً استشرافياً للابتعاد عن العتمة والسواد ومأزق المعنى.

ولعلّ حتمية التعبير عن هذه المحمولات النسقية والرؤى والحفر في المعاني والدلالات هو الذي مثّل عامل الضغط – على المستوى التعبيري – من أن تلجأ إلى التقمص والتماهي المطلق مع نسق البوح العفوي انتصاراً لجمال الرؤية والإفادة باستثمار معجمية التعبير (الرمانسي الشفيف) بوصفه الصورة المحرّضة على البحث عن جمال المعنى ومعنى الجمال، والشاعرة متدفقة المشاعر في نصوصها وبشاعرية لافتة ومن خلال معاينة وتحليل شفرة (العنوان) الذي يمثّل النص الموازي أو الإضاءة الاستباقية والطاقة الإشهارية، وثريّا النص، فإنه يعكس صورة شعرية فيها كثير من التشكيل البصري، كوّنته عناصر ومرموزات (القاع + الجرح + اليد) والبوح التكاملي المتّقد لهذه التوليفة الدلالية التي تنتج المعنى القصدي حقيقةً ومجازاً، وثيمة وصورة، وهو النظر إلى العالم بحركة (الإنبعاث والتوّهج) عبر مرموز الحركة ضد (تخثّر الدم)، والحركة هنا ليس فقط إرادة أو إزاحة بالمنطق الفيزيائي، إنها رؤية إشارية لتحريك (بلادة المشهد) عن طريق الرهان على البياض (البقاع) والعفوية وكأنها تردد ما قاله (تيودور دستويفسكي) – فرويد الرواية – من أنّ (الجمال ينقذ العالم) وهذا المرتكز على مستوى الثيمة والعمق الدلالي أفضى بها إلى مجموعة استثمارات على المستوى الجمالي والمعرفي لتنوير النص – من الداخل – بهذا التوق الدال على سيميائية الإشراق، والرهان على الضوء والتوق لإزاحة ركام الرماد المتصاعد من السكون والضباب وعتمة المرايا.

فكانت المفردة – منتقاة – لتمثَّل الأسَّ التعبيري لتشكيل منظومة من الصور الشعرية التي اتسمت بالاختزال والميل إلى التصوير (البصري) وغيرها من الوسائل التعبيرية التي سنحللها بوصفها رهانات التشكيل الرؤيوي ومنها الصورة الشعرية والمفردة المنتقاة، واشتغال على الانزياحات في البنية الدلالية والاستعارة والترميز والإيحاء إلى جانب استثمار روح المفارقة، لاسيما في عناوين النصوص، إذ نجد في نص (لا احتفال تقيمه الرياح) تلك الشعرية منذ العنوان:

بطيئاً يتسلقني الصبح

فأزيح أكفان الليل من على كتفي

وأشرع النوافذ

أبحث عن أرض أخفيتها

عن ذبذبات قلق تؤرقني

عن رائحة الياسمين

عن عراجين الشوق

عن آبار الغدر

وعن عشيرتي

لا شيء داخل هذا القفص الصدري

لاشيء سوى يوم يعشعش في شقوق الجرح

وعظام من مرّوا/ وجعي يطفو

تأخذني الهواجس والسفر الحزين (المجموعة: 19).

فالنص كما نلحظ يكشف عن ميل إلى المفردة المنتقاة والتحليق الرومانسي على الرغم من أنه مؤطّر بأسى شفيف ونظرة فيها كثير من الشجن والرغبة في الخلاص من أكفان الليل بتسلق الصبح ورائحة الياسمين ولكنّ الواقع المرّ يعشعش في شقوق الجرح، فهناك (اكفان الليل) (الأرق) (الشوق) (الغدر) (الجرح) (الوجع).. لكن هذا الأسى هو في حقيقته نوع من التحريض على ما حذف من المشهد وهو وسيلة لاستذكار المعنى الكامن – الغائب- في الموجودات وهذه هي البراعة على مستوى تشكيل السؤال وفخ الرؤى التي تطلقها عبر الاستفهام والسؤال والعتاب والتأسّي ورحلة البحث التي تصر عليها وهي تفتش وتتلصص تلصّصاً جمالياً وذهنياً على عالم لم يحتج إلى صخب البحث والسؤال واستنهاض المعنى المحذوف.

فالإشتغال على البحث عن (المحذوف في المشهد) هو أحد مهيمنات البوح والتحري الرومانسي عند الشاعرة لذا نجدها تكثر من الاستفهام والسؤال وتفحّص الظواهر. وبذلك فإنّها ترّكز على ما يتماهى مع هذه التطلعات التعبيرية مثل الرهان على صور الطفولة بوصفها (ايقونات) للإحالة على (البياض) المطلق السادرة في البحث عنه:

سحقا لمن اغتال الطفولة فينا

ونام على سرير من دم..

محفظتي المعلقة تركتها

فوق ركام الأدمع

من سيسحبها من عروة

وهل ستستريح على مكتبي..؟! (المجموعة: 27).

ونرى كثيراً من المقاطع أو النصوص فيها هذا الميل إلى عوالم لطفولة والبراءة الأولى بوصفها استعارة لسؤال الشاعرة عن البياض (النقاء) المفقود، والبحث عن كينونة شعرية تعيد ترميم العالم المهدّد بالقبح المستديم وتشغلها صورة البحث عن عالم مكتمل (كوني) وغير متشظٍ فتحاول جمع النثار عبر التكرار والسؤال والاستفهام والغوص في عوالم الانبثاق العفوي بعيداً عن صخب العالم والصدأ الذي يزحف مثل جراد أصفر.

ونكهة البحث عن النقاء (البياض) تمثل مرتكزاً مركزياً في معظم النصوص إذ تتناسل مع الصور الاستعاريّة والبنى الانزياحية التي تكتشفها من خلال المناورة وتحوّلات المعنى داخل النسق الشعري ونلحظ نزعة سردية جميلة في بعض نصوصها:

وفي المنفى القريب

يزرعون الخطايا

منسيا كان ذاك الغريب

في باحة الشوق

رغيف وأغطية

تناساها السيّارة

ومن ثقب الجدار أطلّت

تذبح ضحكات استرسلت

ونشيدا / وارفةً

تدغدغ وشوشات السكارى

وعابري السبيل

شاخصة

تمدّ خطاها نحو ذاك الأفق

بحثاً عن وطن… (المجموعة: 32).

في هذا النص تبدو هواجس البوح الشعري متمركزة على (فعل) البحث والتحرّي وتفحص الواقع إنها استقصاءات التوق وهو استدلال على وجود (فراغ السؤال) الباحث عن صورة الاكتمال.

وتميل نصوص المجموعة على الرغم من هواجس البحث والتوق والتأطير والاسئلة عبر الأسى الشفيف فإنها تميل إلى جمالية الصورة الشعرية التي تتوافر على إحداث تحريك وتحوّلات في الدلالة على مستوى المعنى والمعنى المحلّق، أي نقل المعنى (الايقوني) والمعجمي إلى الفضاء الدلالي والانفتاح على طاقة من التأويل والإيحاء والنسق الاستعاري كما في نص (منسيّا كان ذاك الغريب):

تحت الظل

أشياء بلا رائحة

وأطفال يراوغون المحرقة

في الركن

وشوشات العذارى

وزغايد

وفي المنفى القريب

يزرعون الخطايا

منسيا كان ذاك الغريب (المجموعة: 31).

فالبحث عن التوق يجعل الشاعرة تضيء زوايا العتمة وتبحث عن عوالم التكامل وهي تعبّر عن صدق الارتهان إلى النقاء المفقود والطهر تقول في نصّها (خناجر الشقاء تشدو بأغنيات الوداع):

جميل أنت/ أيّها المتغلغل في شرايين الهزيمة

حين ترتق اسما للقدر

وتحوك ثوبا للفضيلة

غريب أنت

وأنامل الصبر

تعدّ تفاصيلك

فأي ارتعاش أصاب الهوى؟

وأي طير عشش فينا؟

هو أساطير القدامى

أحلام لم نحد عنها يوما

فكيف ننسى من أنار

قناديل الانتظار

في أمانينا” (المجموعة: 37).

نلحظ في النص اهتماماً وعناية برسم الصورة الشعرية وهي تحقق بها نسقاً من الانزياحات الدلالية، ومفردات قريبة من عمق الفكرة والتعبير عنها دون حذلقة أو بحث عن الغموض والألفاظ العصيّة وهذا النزوع يؤشّر التيقّن من أنّ الفكرة هي التي تضفي جمالاً وليس بوصفها في موضع التزويق السطحي.

فالشاعرة عبر اهتمامها بطبيعة التفاصيل تجد أنّها تضع الجدل بين المشاعر والطقوس والمكان الذي يمثل إحدى مهيمنات نصوصها سواء أكان مكاناً معادياً مثل الحوادث التي تصفها الأحداث أو أمكنة حياتية تقتضيها ثيمة النص كما في نص (في البيت جراح تنزف):

الحي الهادئ حزين

الأرصفة بلا صخب تنتحبُ

ومن الشرفة الملتهبة

يتدلّى ثوب الحبيب بلا جسد

أمي بلا وجه أراها

تقيس البهو

والثوب بالدمع يرتدّ

قطتي العرجاء/ هناك

ترضع بلا شغف صغارها

هذا أبي؟!

ما عدت أعرفه

لا صوت أسمعه

شيخاً أراه بلا ذاكرة

قد كسا أغصانه الشيب

والجذع هرم

أيا عزرائيل هبني بعض عمر

حتى أعيد وجه أمّي

أرمي على كتفها شالها

وأعيد المساحيق إلى فستانها (المجموعة: 43- 44).

هذا النص ثري بدلالاته وانزياحته وصوره وهو رثاء شفيف ونظرة فيها كثير من العتاب والأسى لما آلت إليه كلّ الأشياء حيث الانطفاء والذبول لكنّها تجد المدخل إلى هذا العالم الباهت عبر المكان، البيت والباب والشرفة والأرصفة، فالمكان يتماهى مع الوجود لأنّه في الحقيقة هو الوجود وما الأُلفة وغيرها إلاّ ما يحدث بين المكان والمكين وتكتسب الأمكنة هويتها ورائحتها ودلالاتها في هذا الجدل السايكولوجي بينها وبين من يسكنها فهناك أماكن نسكنها وهناك أخرى تسكننا، استطاعت الشاعرة مسرحة الفضاء المكاني وخلق دلالات مشتركة بين المكان والموجودات (الأب والأم والقطّة…) وبذلك قدّمت مشهداً صورياً مؤثراً بأسلوب شعري سردي.

ونجد مثل هذا الاشتغال في مساءلة المكان وفيوضاته وعلاقته مع الإنسان والفكرة والتوق في نص آخر فيه العمق والاختزال (حتى تتجرد الحانة من تفاصيلها):

مال المساء

طبع قبلة باردة على ثغر صبيّة

كانت تعرض مناديل للصبر

على المارّة

وتشد بيسراها ثوب الأمل

هادئة..

وقف تحصي أسراب الطيور المتشبّثة

بتلابيب غيمة

والمغادرين لحانة..

تجرّدت في تجاعيدها

لتسكب في أضواء الباحثين عن وطن

نبيذ الحب

في حبوب المغفرة (المجموعة: 46).

هذا نص فيه اشتغال واستثنائية على مستوى استثمار المكان في خلق مشهديّة ممسرحة وفيها إيجاز وتكثيف واشتغال على تحريك دلالة المعاني من خلال منظومة الإنزياح (تلابيب غيمة) (الحانة تجرّدت من تجاعيدها) (حبوب المغفرة)، وكأنَّ ثمة اقتران بين حزن الأمكنة وما يجلبه (المساء) كدلالة زمنية على الصمت ومراقبة ما يحدث بعيداً عن الصخب، وهذا التوّجه عمّق من الأداء (السايكولوجي) للنص وهو يتعالق مع الأحاسيس الداخلية في جدلها مع المكان والأحداث وصيرورة النهاية.

ونرصد الشاعرة وهي تتعمّق في تقديم الأجواء والأمكنة والأحاسيس غالباً ما تبدأ النص بجملة السؤال كنوع من التحريض والبحث عن المعنى المغيّب في الصورة ونجد حتّى العنوان يتحوّل إلى سؤال متصدّر (كيف صرنا فصلاً من رواية؟!) تقول فيه:

أين نمضي

ألغيم القهر أم لأعماق الدمار..؟

يا لحزن الجرح

حين أبكاه النهار

يا لصرختنا الطويلة

أين طفلي

ها قد قتلته آلام السَّموم

إلهي كيف خرّ المرء

عند أبواب الخنوع

لمَ قطع الصمت أنّات السجيّن..؟

من هنا البحر يصيح

يا لبوحي

بالآهات البراكين

يا لحوت ينهش لحم رضيع

وليل مقمر هدّه صوت يتيم

ورفاق احرقتهم نيران الخديعة

كيف صرنا فصلاً من رواية؟!

ثم صدّقنا الحكاية

ومزقتنا كثبان الذهول

أين نمضي؟!

وإلى أين المفر؟ (المجموعة: 47- 48).

ونجد في نص (كيف للبياض أن يلّف الجراح) اشتغالاً مميزاً في تركيب عناصر النسق الشعري.. التساؤل والأسى الشفيف، وفي هذا النص ثمّة اسئلة وجودية عميقة تثير ذهن المتلّقي وتجعله ينظر إلى المجسّد والمجرد وإلى الفكرة بإحساس التفقد بحثاً عن المعنى الذي يعيد التماسك والنضارة إلى مساحات الذبول:

يمرون خلف الغيم

يقتنصون النجم ما أمكن

لا ألوان تزيّن السماء

ولا أشباح تراود العاصفة

هم بعض أشلاء أو أشباه للخطو

يمرّون على شمس تتدرج بلا ذاكرة

في البهو صراخ عذارى يستعجلن الآخرة

والطريق الى الرب طويل..

الأيادي تُلوّح..

والمراكب في اليّم غارقة

وهذي الذنوب تمدّ الأيادي وتهذي

طلباً للمغفرة (المجموعة: 117).

هذه المجموعة الشعرية الشفيفة تختزن توق المكابدات وهي تفيض بوحاً وسؤالاً وتأمّلاً تبحث عن معنى الوجود، ومعنى البياض، وهي بهذه النبرة من الأسى لا ترثي أو تحتجّ فحسب بل تقدّم صوراً شعرية ورؤى للنهوض بالمعنى الغائب وصولاً إلى كينونة العذوبة وإشراق الأعماق، وتميّزت المجموعة بالعنوان (الجملة) التي تكون أحياناً طويلة نسبياً، وقلّما نجد عنواناً مفرداً، فضلاً عن نزعة سردية في مجمل نصوصها، مع امتلاك الشاعرة لنفس شعري طويل وتدفق شعري لافت.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.