يتنزّل الاهتمام بالكتاب ضمن الأنشطة المحوريّة للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” على امتداد المواسم الأكاديميّة المتتاليّة، حيث تنظّم جميع الأقسام العلميّة لقاءات تقديميّة للمنشورات العلميّة والفكريّة والإبداعيّة المختلفة، إن كانت من إصدارات المجمع أومن غيرها.
بقلم عزالدين العامري
في هذا السياق نظّم قسم الآداب مؤخّرا لقاء حواريّا حول كتاب “الاعتماد في الأدوية المفردة” لابن الجزار، الذي حقّقه المجمعي إبراهيم بن مراد، المختص في علوم اللغة العربيّة، وتحديدا في المعجميّة والمصطلحيّة والترجمة.
افتتحت اللقاء الدكتورة رجاء ياسين بحري رئيسة القسم متناولة مسيرة وأعمال المحقّق، وقدّم المجمعي منصف الوهايبي مداخلة حول محتويات الأثر وطبيعة الأعمال التحقيقيّة بوصفها “معقّدة وشاقّة” تلك التي استهوته في البدء لكنّه هجرها مثلما ورد في تقديمه، كما تناول أعمال ابن الجزّار وتأثيرها في المسارات العلميّة عموما.
ويعدّ كتاب الاعتماد في الأدويّة وفقا للأستاذ إبراهيم بن مراد “من أوائل الكتب العربيّة التي خصّت فيها الأدويّة المفردة بالتأليف، إذ لم يسبقه إلاّ كتاب “الأدويّة المفردة لإسحاق بن عمران” الصادر في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي.
ويكمن البعد الإشكالي في علوم الأدويّة المفردة حسب المحقّق في طبيعة علم الأدويّة المفردة “المتكوّن من علوم كثيرة” وركّز في هذا الإطار على الارتباط الوثيق تاريخيّا بين الطب والفلسفة، مذكّرا بعديد الأسماء التي زاوجت بين التأمّل الفلسفي والبحث الطبي مثل ابن سينا والرازي وابن الهيثم، لذلك يلقّب الطبيب بالحكيم أي يعرّف بالحكمة.
بالمعنى الوجيز اجتمعت تلك المعارف والعلوم في كتاب الاعتماد لابن الجزار، ممّا جعله مشعّا عربيّا، وأوروبيّا، إذ “ترجم مرتين إلى اللغة اللاتينيّة، كما ترجم إلى اللغة العبريّة” وعلى الرغم من إشعاعه لم يتم تحقيقه علميّا إلاّ سنة 2019.
تلك هي رهانات التكثيف من المنابر الحواريّة حول الأعمال الفكريّة والعلميّة المختلفة للتعريف بجهود أصحابها، ولربط الصلة بينها وبين من حافظ على الحدّ الأدنى من الانشغال بأسئلة العمق في زمن الهوس بالميديا الاجتماعيّة ذات الطقوس الساحرة، تلك التي لم ولن يمكّنها أفيونها من أن تكون بديلا لخير جليس في الأنام وفقا لعبارة المتنبي. فالكتاب هو الجليس الأكثر فتنة لمن يمتلك العيون التي تجيد لغة التخاطب مع مواطن الجمال، ولا ينمو العقل إلاّ بالمطالعة والتفكير مثل الجسد الذي لا ينمو إلاّ بالطعام والرياضة كما يشدّد على ذلك المثل الألماني الشهير.
باختزال شديد لن تقطع شعوب التبعيّة مع التخلّف إلاّ متى تؤمن بسيادة مفكّريها وعلمائها، ولن تنعم بالسيادة إلاّ حينما تطلق العنان لصنّاع الرأي العام كي يكونوا قادة سفن الشأن العام، وكي يضطلعوا بمهامّهم الاستشرافيّة من أجل رسالة تأصيل الكيان.
شارك رأيك