لم يشهد الإتحاد العام التونسي للشغل منذ تأسيسه سنة 1946 مثل هذا الضعف والوهن الذي يشهده منذ أن تولّى السيّد نور الدين الطبّوبي أمانته العامّة سنة 2017. وبالرّغم من الأزمات الخطيرة التي مرّت بها في صراعها مع السّلطة في عهد كلّ من بورقيبه وبن علي فإن هذه المنظمة التي سارت على نهج فرحات حشاد والحبيب عاشور بقيت شامخة ولم تنكسرعلى عكس ما هي عليه اليوم تحت قيادته الحالية.
بقلم الأسعد بوعزي
اليوم أصبح خطر تفكّك الإتحاد قائما وجدّيّا والأسباب في ذلك عديدة إذ منها ما هو راجع إلى الفشل في تقدير الموقف وعدم القدرة على الاستشراف ومنها ما هو راجع الى الأنانيّة والتمسّك بالقيادة ومنها ما هو راجع إلى التسيّب والانفلات النّاتج عن عدم الانضباط والمتمثّل في خروج بعض رؤساء الجامعات والمكاتب الجهوية عن طاعة المكتب التنفيذي وأخذهم لقرارات على غاية من الحساسيّة دون استشارته.
1) الفشل في تقدير الموقف:
لا بدّ من الإشارة قبل كلّ شيء الى أن أصل بليّة الاتحاد التونسي للشغل لم تأتي مع تولي السيد نور الدين الطبّوبي وفريقه إدارة شؤون المنظّمة بل هي تعود الى تاريخ 17 ديسمبر 2010 حينما انخرطت هذه المنظمة في الانقلاب على الرئيس الرّاحل بن علي وهو ما أدّى الى خروج الأخطبوط النّهضاوي من قمقمه ليلتفّ حول عنق الدّولة الوطنية ويثأر منها ويأخذها كغنيمة حرب قبل أن يجعل منها إحدى إمارات الخلافة السادسة الموالية للعثمانيين الجدد المموّلين من دولة قطر.
كان ذلك نتيجة خطإ جسيم في تقدير الموقف من طرف القيادة في ذلك العهد التي قد تكون رأت في مشروع “الرّبيع العربي” فرصة لا تعوّض للخروج من قبضة نظام الحزب الواحد الذي لم يغفر له أحداث 26 جانفي 1978 وأحداث وانتفاضة الخبز ل 4 جانفي 1984.
لم يكن الاتحاد قادرا على استشراف الخطر الدّاهم إذ لم يكن يعلم لمّا كان قادته يحرّضون على الانقلاب على السلطة الشرعية من أعلى شرفات بناية ساحة محمد علي وبكلّ الفروع الجهوية والمحلّية أن القوس المرتدّ (boomerang) سوف يرتدّ عليهم ليلحق ضررا بمنظمتهم التي كانت تمثّل إحدى دعائم الدولة الوطنية والتي شاركت مع الحزب الحر الدستوري في قيادة الحركة الوطنية من أجل استقلال البلاد وتأسيس الجمهورية التي تتعارض مع دولة الخلافة.
وجرّاء هذا الخطإ الجسيم عاش الإتحاد العام التونسي للشغل عشرية حرجة في ظلّ حكم حزب النهضة التي تجنّدت لمحاربته ميدانيّا بواسطة ما يُسمّى برابطات حماية الثّورة وسياسيّا عبر ذراعها التكفيري المُمثّل تحت قبّة البرلمان في كتلة ما يُسمّى “بائتلاف الكرامة” المعادي للدّولة الوطنية ولكلّ رموزها بمن فيهم الإتحاد التونسي للشغل حليف الحزب الدستوري الحر في مقاومة الإستعمار الفرنسي.
وبالرّغم من حصوله سنة 2015 على جائزة نوبل للسّلام لكونه أهمّ عنصر في الرّباعي الرّاعي للحوار، فإن الإتحاد عجز عن توضيف هذا الإنجاز التاريخي لما يخدم مصلحة تونس وبما من شأنه أن يحسّن من صورته لدى الشّعب بعد ما ألحقه به الإسلاميون من شيطنة وتشويه.
2) الحياد عن الشّرعيّة والتمسّك بالسّلطة:
مع بداية سنة 2020، بدأ المكتب التنفيذي يفكّر في مراجعة القانون الأساسي للمنظمة الشغّيلة قصد إحداث بعض التعديلات من أهمّها تحوير الفصل 20 بما يسمح بالتمديد لأعضاء المكتب التنفيذي الحالي لأكثر من عهدتين وبما يتيح للأمين العام بالترشّح الى ولاية ثانية.
منذ ذلك الحين بدأ الانشقاق يدبّ داخل الاتحاد حيث أمضت مجموعة متكوّنة من 250 نقابيا ونقابية وثيقة رافضة لهذا المؤتمر باسم “لقاء القوى النقابية الديمقراطية”. من أهمّ الموقّعين على هذه الوثيقة نذكر بعض القياديين البارزين من بينهم أعضاء جامعتي التعليم الأساسي والثانوي وعلى رأسهم الأسعد اليعقوبي ونبيل الهوّاشي والمستوري القمّودي.
لم يسعَ المكتب التنفيذي الى تطويق هذه الأزمة مع أن كلّ الضروف كانت تذكّر بأزمة 1965 حينما انسلخ الحبيب عاشور (المدعّم من طرف الزعيم بورقيبه) عن الإتحاد العام التونسي للشغل ليؤسّس منظمة نقابية جديدة تحمل إسم الإتحاد التونسي للشغل وذلك إثر خلاف دبّ بينه وبين أحمد بن صلاح الذي كان يسعى الى بعث حزب عمّاليّ.
وتزامنا مع ظهور هذه الوثيقة الممضاة من طرف ائتلاف “لقاء القوى النقابية الديمقراطيّة” برزت على شبكات التواصل الاجتماعي عديد الصفحات المعارضة لعقد المؤتمر الاستثنائي من أهمّها “أحفاد حشّاد ضد الانقلاب والفساد” و”الرّادار النقابي” و”حركة التصحيح النقابي” كما نُظّمت عديد الاحتجاجات من طرف عدد من ممثلي النقابات الأساسية والفروع الجامعيّة بجهتي تطاوين وبن عروس أين تحظى الحركة “الإخوانية” بتمثيل واسع.
قد تكون الأنانية المفرطة والتمسّك بالكراسي حجب الرّوية عن المكتب التنفيذي وجعله لم يتفطّن الى ما يُحاك ضدّه من طرف القوى الظلاميّة التي تسعى الى تفكيكه كما هو الشأن بالنسبة للسلطة التنفيذية (رئاسة الحكومة) التي كانت تسعى الى إضعافه قبل أن تغيّر موقفها منه بعد 25 جويلية 2021 (رئاسة الجمهورية) بوصفه جسم وسيط وجب تحييده بأيّ شكل من الأشكال لتمرير النظام القاعدي الذي يتناقض مع مثل هذه الأجسام.
ومع كلّ هذه المعارضة فقد أصرّ المكتب التنفيذي على المرور بقوّة حيث صادق المجلس الوطني للإتحاد يوم 26 أوت 2020 على عقد المؤتمر الاستثنائي غير الانتخابي بنسبة 96% من مجموع الحاضرين وهو ما أثار حفيضة “ائتلاف القوى النقابية الديمقراطية” التي رفعت دعوى قضائيّة عن طريق كلّ من منية بن نصّر العيّادي ومصباح شنيّب بغية إبطال هذا القرار.
انعقد المؤتمر الاستثنائي يومي 7 و8 جويلية 2021 وأقرّ تنقيح النظام الأساسي لينصّ على التجديد النسبي على الأقل لثلث تركيبة المكتب التنفيذي ويجيزلأعضائه بالترشّح لأكثر من دورتين وهو ما سمح للسيد لنور الدين الطبّوبي بتجديد ولايته كأمين عام للمنظّمة الشغّيلة.
وبالرّغم من أن المحكمة الابتدائية بتونس قضت بتاريخ 25 نوفمبر 2021 ببطلان هذا القرار الذي يعتبره الشق المعارض انقلابا على الشرعية وحيادا عن مسار حشّاد فإن المكتب التنفيذي طعن في الحكم وبقي على موقفه الى حين أن أصدرت محكمة الاستئناف حكمها يوم 13 أكتوبر 2022 الذي يقضي بنقض الحكم الابتدائي.
وخلال السّنة التي أمضاها المكتب التنفيذي الجديد في ترقّب قرار محكمة الاستئناف كان الإتحاد العام التونسي للشغل على غاية من الوهن وهو ما ساعد رئيس الجمهورية الذي جمع كلّ السّلط بين يديه غداة 25 جويلية 2021 ليصدر الأمر عدد 117 المتعلق بالتدابير الاستثنائيّة ويشرع بذلك في بناء النظام القاعدي في غياب قوّة فاعلة من شأنها أن تعدّل الموازين على الساحة السياسية.
3) التسيّب والإنفلات النّقابي:
شهدت العشرية التي تلت حراك 14 جانفي 2011 وخاصّة منها سنوات حكم التّروايكا انفلاتا في العمل النقابي باسم تحسين الضروف الاجتماعية للشغّالين وتسوية وضعيات بعض القطاعات الهشّة وخاًصّة منها عمّال الحضائر وشركات المناولة. وسرعان ما شمل هذا الانفلات كلّ الشركات والمؤسسات المنتجة والقطاعات الاستراتيجية مثل النقل والطّاقة والبريد و النسيج وتوقّف انتاج الفوسفاط والصّناعات البتروكميائية وتمّ تسجيل خسارة مليوني يوم من العمل منذ 2011 الى غاية 2018 فقلّت بذلك الانتاجيّة وهو ما تسبّب في عجز في ميزانية الدّولة لسنوات متتالية وبنسبة قدّرها الخبراء بحوالي 9%.
ومع مرور الزّمن وفي ظلّ تدهور الوضع الاجتماعي وعجز الحكومات المتتالية عن إيجاد حلول ناجعة للخروج من الأزمة، اغتنمت بعض المكاتب الجهوية والمحلّية التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل ضعف الدّولة فخرجت عن سلطة المركزية النقابية وأصبحت ترفع شعارات لا علاقة لها بتحسين الوضع الاجتماعي لمنظوريها بل أصبحت تتزعّم تنسيقيات تطالب بالتنمية الجهوية فعمّ بذلك التسيّب وكثرت الاحتجاجات والاعتصامات والاضرابات العشوائيّة.
وفي ظل هذه الفوضى العارمة لم يسلم القطاع الخاص من هذه الإضرابات فأوقفت عديد الشركات أنشطتها وأفلس بعضها وانقطع الاستثمار الأجنبي ويئس رجال الأعمال المحلّيّين من رؤية مستقبل أفضل فجمّدوا أموالهم فيما أختار البعض منهم الهجرة والانتصاب في إحدى البلدان المجاورة.
وبالرّغم من الحدّ من هذه الإضرابات العشوائيّة مع تحسّن الوضع الأمني واسترجاع الدّولة لشيء من هيبتها خلال السنوات الأخيرة فإن بعض القطاعات الحيوية مثل النقل والصّحة والتعليم لا تزال تشهد بعض الإضرابات التي تضرّ بالمواطن وبالنّاشئة حتّى أصبح الاعتقاد السائد يتمثّل في أن الدولة أصبحت عبارة عن غنيمة لدى الإسلاميّين ورهينة لدى المنظمة الشغّيلة فكره الشعب الإتحاد كما كره من قبله حركة النّهضة ففقدت منظمة حشّاد بريقها وشعبيتها ولم تعد تلك المنظمة التي يعوّل عليها كضامن لاستقرار البلاد ووحدتها.
اليوم فقد الإتحاد العام التونسي للشغل وحدته الصمّاء لكثرة الشقوق التي حلّت به فهو يبدو في ظاهره كتلة متماسكة غير أنه في باطنه فرقا متناحرة وقد تفطّنت السلطة الحاكمة الى هذه الشقوق فاستفادت منها لتمرير نظامها القاعدي والشروع في بناء أسسه بل وصل بها الأمر الى استقطاب بعض الرّموز المنشقّة عن المكتب التنفيذي السّابق وتعيّنه في الحكومة على غرار السيّد محمد علي البوغديري الذي عُيّن أخيرا في خطّة وزير التربية والتعليم وهي لعمري رسالة ذات مغزي موجّهة للسيد نور الدين الطبّوبي شخصيّا ومفادها أن “ألزم حدودك بما يتطلّبه نضالك الإجتماعي ولا تحشر نفسك في السياسة”.
يبدو أن القيادة الحالية فهمت الرسالة فانحنت للعاصفة خاصّة وأن العديد من رموزها طالتهم يد العدالة من أجل تهم منها ما يتعلّق بالفساد ومنها ما يتعلّق بتعطيل سير العمل.
لا أظنّ أنّ أبناء حشّاد الوطنيّين المحافظين على مبادئه والسّائرين على خطاه غاب عنهم أن سبب نكبتهم تتمثّل في استيلاء اليسار على منظمتهم ومهادنته للإسلاميين تحت شعار “لا للإقصاء” وفكّ الارتباط التاريخي مع حزب الزعيم بورقيبة رغم المحاولات التي يبذلها الحزب الدستوري الحر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وإذا ما تُرك الأمر على ما هو عليه فإن المنظمّة الشغيلة سوف تتفكّك لا محالة وتنقسم الى عدّة منظمات خاصّة وأن بعض التنسيقيات العمّالية بدأت تظهر في بعض الوزارات على غرار الشّعب المهنيّة زمن بن علي في الوقت الذي ينادي الكثير من أعدائها بتعدّد النقابات طبقا للقوانين السّائدة في البلاد ولعلّ الحلّ يكمن في الإتفاق على شخصيّة تُحظى بثقة الجميع ( قد تكون السيد حسين العبّاسي) لتهدّئ الأمور وتدعو الى مؤتمر استثنائي انتخابي ليفرز قيادة جديدة على ضوء انتخابات نزيهة وشفّافة.
ضابط متقاعد من البحرية التونسية.
شارك رأيك