وسط حمأة مقاطعة مسلسل “الفلوجة” الذي يبث منذ بداية شهر رمضان على قناة الحوار التونسي بنسب مشاهدة كبيرة و في زخم الاستنكار و التنديد و الدعوة إلى المنع و الممانعة، لم نلحظ أحدا من الإعلاميين و لا حتى من مسؤولي وزارة التعليم تقدم بمقترح تأسيس و تعزيز نوادي المسرح و السينما في المعاهد و الجامعات و تعميم تدريس مادة الفلسفة للتدريب على النقد و الانتقاد و قبول المُربك و الصادم. وهي من علامات مرض الفالج الذي يصيب التونسيين في شهر رمضان كما في بقية أشهر السنة…
بقلم ميلاد خالدي
لا يخفى على أحد أنّ الوجبة التلفزيونية الدسمة التي تُقدّم كلّ شهر رمضان تُسبّب للمشاهد للتونسي عُسرا في الهضم و حتى مرض الفالج الذي صمّم أن يزوره هو دون سواه. ما أثاره مسلسل “الفلوجة” لسوسن الجمني على قناة الحوار التونسي يدخل في دائرة ما يسمى tapage centrifuge أو “سفسطة صائم في يوم غائم” الذي ينأى بالحديث عن كبرى القضايا ليجد نفسه يجادل مسائل أخلاقوية من قبيل الفضيلة و الرذيلة والخير و ما وراء الشرّ، ليقوم في نهاية المطاف بمحاكمة قناة أو سيناريست أو مخرج تجاوز حدود الصَنم والربّ. هل الدراما التلفزية قادرة حقّا على إفساد الناشئة و تمييع الذوق العامّ؟ أم إنّها تظلّ تجربة فنية غير ملزمة بإصلاح الواقع بقدر ما هي مُلزمة بتعريته و تمتيع المشاهد بلذّة العُري؟
الفالج التونسي…
الفالج هو ذلك الشلل النصفي الذي يعاني منه التونسي و غيره في سائر الأيّام على غرار شهر رمضان، حيث دائما ما يُشغّل التونسي نصف دماغه فقط أو نصف جسده و بالتالي يُغيّب نصف وعيه وإدراكه و ذائقته.
التونسي الذي يجد نفسه يعيش على أنصاف الحالات و الوضعيات و العقليات و ردود الفعل و السلوكيات. دائما هناك نصف غائب، نصف جامد أو متجمّد، نصف لا يحسّ و لا يعي. فقط يتعامل مع الواقع من منطلق النصف والمناصفة و التصنيف. لا مجال للكلّ و المُطلق لأنّ الإطلاق يطرق باب الدكتاتورية فنصف الحلّ و نصف الرأي خير من لا رأي له. فعلى سبيل المثال، القانون الوضعي و القيمي يُطبّق إلاّ على النصف الآخر المختلف عنّي، الذي لا يقول ما أقول و لا يشاهد ما أشاهد.
الفالج التونسي هو امتداد لظاهرة عربية تُؤمن بأنّ نصف الكرة الأرضية الشمالي يتآمر عليه وعلى كلّ مجتمعات النصف الجنوبي، إلى أن يصل به الأمر إلى تغيير تركيبتهم الديمغرافية و الذهنية و الثقافية و الأخلاقية في إطار “مشروع الاستبدال المجتمعي العظيم”.
من يعاني الفالج هو ذاك الكائن الذي يفتقر إلى جهاز مناعي قوّي يحميه من أي جسم غريب أو تدخّل أجنبي أو بثّ إعلامي غير مرغوب فيه. فالمشكلة لا تكمن في المادّة الموجّهة بقدر ما تكمن في مدى جرأتنا على فتح نقاش عميق إزاء ما يُعرض و يُعاش أم إنّه ظلّ ذلك الرعب التاريخي في طرح الأسئلة الحارقة و المُحرقة كتعاطي المخدرات و الجنس و الزواج خارج الأطر القانونية وغيرها.
تبقى الأسئلة المهمّة كالآتي: ماهي هويّتنا و ماذا نريد منها؟ هل هوّية القرن الواحد و العشرين هي الوصفة الجاهزة لكلّ فئات المجتمع مهما اختلفت مشاربهم و توجهاتهم؟ أم إنّ هناك هويّات مُتناحرة؟ تساؤلات ليست بالضرورة تنتظر إجابات… دون القفز عليها طبعا…
الفلّوجة… الرمز العابر و المسؤول…
عندما نسرق الرمزية يضمحلّ المعنى أثناء العبور إلى الضفّة الأخرى. مدينة الفلّوجة العراقية تبقى عالقة في الذاكرة العربية كمعقل للمقاومة العراقية ضد الغزو الأمريكي سنة 2003 و ضدّ تنظيم داعش الإرهابي سنة 2016. الدراما تُؤرخ وتُوثّق، الفيلم الأمريكي “الطريق إلى الفلّوجة” الصادر سنة 2009 يُؤرشف لفترة الاستعمار الأمريكي و بسالة أهالي الفلّوجة. لكن أن تتحوّل المسألة من فلّوجة العراق إلى ‘فلّوجة” سوسن الجمني بغضّ النظر عن المواضيع التي تطرحها، فقد وقع التنكيل بالرمزية و بما تحمله من دلالات حافة subliminales. أمّا إذا تطرّقنا إلى مسألة الرقابة و عين الأخ الأكبر Big Brother فشخصيا لست من دُعاة الحد من الحرية في الأعمال الدرامية والفنية و الأدبية فحيثما وُجدت الرقابة كثُر طنين الأخلاق و دوّي المسّ من هيبة الدولة و المقدّسات وبالتالي عودة الديكتاتورية من جُحرها الكبير.
حقّق مسلسل “الفلُوجة” نجاحا باهرا في استقطاب المشاهدين، حيث تصدّر أعلى نسَب المشاهدة على مدار الأيّام الأخيرة لأنّه دعوة ذكية لمصيدة الإغراء و الإثارة و التشويق وهي من اساليب التسويق الجيّد. أقوى دعاية يمكن أن يقوم بها صاحب عمل فنّي هو أن يكون موضوع الساعة و حديث الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لأنّ النفس – في كلّ عمل يقدّم – بطبيعتها تطلب العنف و الجنس و مُتعة التلصّص و لذّة استراق النظر. إنّها تلك السادية الدرامية الجديدة التي تزدهر حين يكون صاحبها في أحسن وضع وحال.
وسط حمأة مقاطعة المسلسل و زخم المنع و الممانعة، لم ألحظ أحدا من الإعلاميين و لا حتى من مسؤولي وزارة التعليم تقدم بمقترح تأسيس و تعزيز نوادي المسرح و السينما في المعاهد و الجامعات و تعميم تدريس مادة الفلسفة للتدريب على النقد و الانتقاد و قبول المُربك و الصادم.
في الختام، مرض الفالج يُصيب جميع الشعوب و يُزعزع أنصافها لكن الأمر يكمن في كيف نشغّل النصف الآخر الحيّ حتى يتسنى لنا الفوز بالمُعادلة.
كاتب تونسي.
شارك رأيك