تبدو مبادرة الرئيس قيس سعيد لإصلاح التعليم نافذة أمل في وقت يعاني فيه الأستاذ النائب و المعلم النائب الأمرين و مشاكل بالجملة. و السؤال يبقي مطروحا عن مدى حضور المفكرين و علماء الاجتماع في أية رؤية للإصلاح مقارنة بما يجري في الدول المتقدمة.
بفلم ياسين فرحاتي
منذ السنوات الأخيرة من فترة حكم زين العابدين بن علي و مباشرة بعد ثورة 2011 و المختصون و الخبراء يؤكدون على ضرورة مراجعة و إصلاح المنظومة التربوية من جذورها بعدما أصيبت بالعجز عن مواكبة متغيرات العصر و إعطائها نفسا و روحا جديدة و لكن منذ ذلك الزمن و إلى وقت قريب كأنها صيحة في واد أو نفخة في رماد فكل حكومة ترجىء الملف إلى الحكومة التي تليها دون أن نبصر أي أفق للحل عاجلا أم آجلا.
و رغم بعض التجارب التي شهدتها البلاد و لعل آخرها ما تعلق بالتعليم الأساسي حيث كانت مناظرة التاسعة إجبارية ثم أصبحت إختبارية تفضي للمتفوقين فيها الدخول إلى المعاهد النموذجية الموزعة على 24 ولاية و قد أكد لي متفقد التعليم الثانوي في العلوم الفيزيائية أن تجربة هذه المعاهد لها نتائج وخيمة إن لم تكن “كارثية” حيث تدرس مادة العلوم الفيزيائية وهي مجال تدريسي باللغة الفرنسية في المعاهد النموذجية بينما تدرس في المعاهد العادية لتلامذة نفس المرحلة الإعدادية باللغة العربية و يرى بعض الخبراء أن هذا يعد خللا كما قال أحد كبار الأساتذة العرب أن تدريس العلوم الصحيحة كالعلوم الفيزيائية و الرياضيات باللغة العربية أفضل و أكثر نجاعة و ثمة تحوير في البرامج و المناهج خلال السنة الدراسية 2024- 2025 قد يشمل بدون أدنى شك هاتين المادتين الهامتين جدا و غيرها من المواد.
مستوى الخريجين دون الأدنى المطلوب
كما أن منظومة إمد في التعليم العالي هي أيضا محل انتقادات حيث أن مستوى الخريجين دون الأدنى المطلوب و شتان بين حاملي شهادة الأستاذية و شهادة الإجازة. و محصلة القول أن النتائج لم تكن مثمرة و وحصدنا الفشل و نكاد نقر بأنها سنوات عجاف.
اليوم، تظهر مبادرة الرئيس قيس سعيد كنافذة أمل للإصلاح في وقت يعاني فيه الأستاذ النائب و المعلم النائب الأمرين و مشاكل بالجملة. و كنت أرى شخصيا أنه لو كانت نية لامتصاص البطالة و غضب أجيال قضت أعمارها على مقاعد الدراسة في الكليات و المعاهد و إرضاء لنسبة الشباب و هم الذين ساندوا قيس سعيد في انتخابات 2019 و في 25 جويلية أن تستقطب مدارس تكوين الأساتذة في التعليم الابتدائي و التعليم الثانوي أعداد بحيث يقع تكوينهم و تأطيرهم لمدة عام و من ثم يقع إدماجهم حتى و إن عبر عبر اختبار شفاهي بسيط أما أن نضحي بتلك الشريحة الهامة و نقتل فيهم كل أمل في إعادة بناء مستقبلهم لأنه حقيقة نكاد نقر أن الحلم قد تم وأده في تونس و قد صدق الأستاذ هيكل حينما قال: “لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها و لكن أحلام الرجال تضيق”.
لست مع استعادة الدور القديم لمدارس الترشيح و لكن ما نعاني أنه ثمة مادة شخمة و ثروة بشرية و طاقة وقع إصدارها خلال عقدين على أدنى تقدير. و قد أعلن الأستاذ سعيد بعد اجتماع مع مجموعة من الوزراء ذوي العلاقة بالموضوع حسب ما يرى هو عن انطلاق استشارة وطنية في الغرض ستشارك فيها عدة أطراف لكن صراحة لا نعلم مدى قيمتها العلمية و المعرفية و ما أهمية ما يمكن أن تطرحه من أفكار نيرة و هنا سأستعين بتجارب مقارنة من الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا مثلا.
مكانة المفكرين في كل إصلاح تعليم
من يقول جون ديوي يقول مذهب البراجماتية الشهير و يقول الفكر التربوي الأكثر شهرة في العصر الحديث، حيث ساد هذا المشروع المتميز في الولايات المتحدة الأمريكية لعقود و أثر في بلدان أخرى مثل اليابان و الصين و تركيا. و هو يقوم على مبدأ المدرسة النموذجية و على التقدمية و حث التلاميذ على التعاون بدل التنافس.
و يعتبر ديوي فيلسوفا تربويا و مصلحا اجتماعيا و عالم نفس له عديد المؤلفات الفلسفية و المقالات و تولى رئاسة أكثر من جامعة أمريكية. و ذاع صيته جدا في الغرب خصوصا في مجال العلوم التربوية نظرا لأفكاره و منهاهجه و تحاليل البديعة و النيرة.
و لنا أن ندرك مدى أهمية و مكانة المفكرين في كل إصلاح تربوي ذلك بأن الفلاسفة بفضل معرفتهم بالكليات و بعضهم موسوعيون قادرون على استنباط أفكار و برامج و مشاريع للنهوض بمجال التربية و التعليم و لنا في التجربة الفرنسية التي أقدم عليها وزير التربية ليونيل جوسبان سنة 1998، حيث طلب من فريق بحث مكون من عالم الاجتماع بيار بورديو و كفاءة علمية هو فرانسوا غروس للتفكير في محتويات تدريس مادة الفلسفة و قد تولى رئاسة لجنة الابستيمولوجيا و الفلسفة كل من جاك بوفراس و جاك دريدا. و من أهم النتائج أن تدريس الفلسفة في السنوات الأولى في التعليم الثانوي يساعد على تحفيز ملكة التفكير النقدي لدى التلاميذ و بوصفها مدخلا للديموقراطية و للحرية.
قرأت مقالا عن تدريس الفلسفة للأطفال على إثر مبادرة تقدم بها مجموعة من المفكرين و الأساتذة التونسيين في الفلسفة و كان يفترض محل درس و تعاطي من السلطات التي تنوي إجراء إصلاحات جدية و يفترض أن يتولى رئاسة المجلس الأعلى للتربية و التعليم الذي قد يرى النور قريبا كفاءة كبيرة من مجال الفلسفة أو علم الاجتماع أو من علوم التربية و الديداكتيك و قد قرأت أن البروفيسور مراد بهلول قد قد أرسل رسالة إلى وزير التربية الجديد تضمنت رؤيته للإصلاح باعتباره خبرة لدى منظمات دولية و له دراية بالبيداغوجيا و تعلمية المواد و قد كان أستاذي في مادة تاريخ العلوم بكلية العلوم بصفاقس لما كنت طالبا سنة ثانية في اختصاص الرياضيات فيزياء إعلامية.
و أختم أنه في ثورة تكنولوجيا المعلومات و خصوصا الذكاء الاصطناعي سيكون للمعلم و الأستاذ أدوار أخرى جديدة غير الأدوار المعهودة و الاعتيادية و منهم من يتحدث عن مربين افتراضيين مع انتشار التعليم عن بعد أثناء وباء كورونا و ما بعدها. و لا أحد يمكن أن يتوقع ما الذي سيحدث في قادم الأيام و الأسابيع و الشهور و السنوات.
كاتب تونسي.
شارك رأيك