إذا عقدنا مقارنة بين الشعوب الإسكندنافية و الشعوب العربية ولا سيّما الشعب التونسي، سنجد أنّ شعوب أقصي الشمال بلغت درجة مميّزة من تحقيق الذات و الإبداع بعد أن استكملت احتياجاتها الحياتية و السلاماتية. وهذا للأسف غير متوفّر عند أغلب الشعوب العربية، حيث المواطن هنا همّه الوحيد لقمة عيش وبطاقة علاج و بيئة آمنة دون رهاب النظام الحاكم و التنظيمات المتشدّدة.
بقلم ميلاد خالدي
يقول ابن خلدون “إنّ الإنسان ابن بيئته”. إنّها تلك البيئة المعنوية و الرمزية و المادّية التي ُتفرز كلّ شيء دون أن تأخذ شيئا في المقابل. إنّها البيئة التي يُحدّدها التاريخ و الجغرافيا و المنظومة الاقتصادية وما تُخلّفه من تبعات على المجتمع.
تأثير الاقتصاد على نمط حياة الشعوب لا يختلف فيه إثنان وهو ما يتوافق مع بعض المُحلّلين الذين ذهبوا إلى أنّ طبيعة البيئة التي ينشأ و يترعرع فيها الإنسان قادرة أن تُشكّل وعيه الفكري و الاجتماعي و الثقافي. يعني أنّ اقتصاد أيّ بلد هو محرار لسلوكيات و تطلّعات وإدراكات الشعوب للعالم و الأشياء و التي تتباين بتباين الجينات والأعراق و أمور أخرى.
المنظومة الاقتصادية ليست أوراق مالية نتعامل بها أو نسبة تضخّم نتصارع معها أو شركة تُؤسّس أو تُغلق أو قرض يمنحه مصرف أو غير ذلك من تمظهرات الاقتصاد الشكلية. بل الأمر يتعدّى ذلك إلى نسبة رضى الشعب عن ذاته و مدى تحقيقه لكيانه المحلّي و الاقليمي و الدولي. إنّها الحاجة لتعديل أو ترجيح كفّة مقابل كفّة أخرى ضمن معادلات الوعي و الواقع. صلابة الاقتصاد تجعل الشعب يدافع عن بلده بكلّ شراسة و في بيد أنّ انهيار الاقتصاد يجعل الشعب يُفرّط في بلده ويتفاوض حتى في بيعه. في هذا الشأن يذهب المفكر الجزائري مالك بن نبي إلى أنّ الاقتصاد هو مشروع حضاري يتسرّب إلى كلّ المنظومات القيمية المُتحكّمة في كيانات الشعوب.
هرم ماسلو…
المنظومات القيمية يترجمها عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو Abraham Maslow من خلال نظريته في هرم الاحتياجات الإنسانية. يتكوّن هرم الاحتياجات من خمسة مستويات، تنطلق من قاعدة الهرم إلى القمّة والتي تبدأ بالاحتياجات الفسيولوجية من غذاء و تنفّس و تكاثر ثم الحاجة إلى الأمان الجسدي و الصحّي و الوظيفي ثم مستوى الاحتياجات الاجتماعية من صداقات و علاقات مجتمعية وبعد ذلك تأتي مرحلة تقدير الذات و فرض الهيبة و المكانة. كمرحلة اعتبارية تقييمية، مرحلة تقدير الذات تقود بالضرورة إلى القمة و هي المستوى النبيل من الحاجات الأنطولوجية كتحقيق للذات وخدمة للإنسانية و حلّ مشاكلها. نوعية الأولويات و طبيعة الاحتياجات يُحدّدها اقتصاد البلد في مدى تلبيته لحاجات المُواطنين.
التقسيم التدريجي للسُلّم أو الهرم يمنح الإنسان فرصة التدارك و يُحقّق ما لم يُحقّقه في المستويات السابقة. المُهمّ أن يعي الانسان بأنّ هناك مستويات أخرى تعلو رأسه الصغيرة.
يخترق الاقتصاد حياة الانسان في مواقفه و خياراته و قراراته، وبالتالي يُشكّل وعيه بشقّيه الصغير و الكبير. قاعدة الهرم التي يتحدّث عنها ماسلو هي القاعدة العريضة والشعبية التي يكثر فيها الاستهلاك و الابتذال و الفوضى و الجهل والروتين التي تضُمّ لسوء الحظ أغلب فئات المجتمع، أمّا قمّة الهرم فهي للأقلية و النُخبة بمعنى النُدرة والتفرد والتي يعود إليها الانتاج الفكري و الإسهام الإنساني.
التونسي “العيّاش”…
هل حين نتحدّث عن التونسي، نتحدّث عن عربي أم عرب في صيغة الجمع؟ هل هو حالة ذهنية متناغمة أم حالات ذهنية متضادّة شديدة التضادّ؟ دائما ما نمتثل إلى المثل القائل بأنّ الاستثناء لا يهدم القاعدة، إذ القاعدة تظلّ دائما قاعدة و الاستثناء يظلّ دائما استثناءً.
إذا عقدنا مقارنة بين الشعوب الإسكندنافية و الشعوب العربية ولا سيّما الشعب التونسي، سنجد أنّ شعوب أقصي الشمال بلغت درجة مميّزة من تحقيق الذات و الإبداع بعد أن استكملت احتياجاتها الحياتية و السلاماتية. وهذا للأسف غير متوفّر عند أغلب الشعوب العربية، حيث المواطن هنا همّه الوحيد لقمة عيش وبطاقة علاج و بيئة آمنة دون رهاب النظام الحاكم و التنظيمات المتشدّدة. كما لا يفوت التعريج انّه ربّما حين تمتلأ البطن يمتلأ معها الرأس شحما و لحما و تزداد الأحجام كِبرا من جهة العرض و ليس الطول لأنّ الارتفاع متروك للكيانات المُشعّة من الداخل و الخارج.
ليس هناك إبداع والشعب يتمرّغ في وحل الجوع والعطش والبطالة و الأميّة و الضياع و الإرهاب.
الرسالة التي يجب أن تصل إلى الأنظمة الحاكمة و المجتمع المدني ووسائل الإعلام وهو أنّ الإبداع و تحقيق ذوات الشعوب يمرّ عبر الشعور بالرّخاء و الخير. فإذا كان هناك رخاء دون أن نلمس حقائقه الصلبة على أديم الإنجاز والإبداع فالانقراض أولى و أحقّ بتلك الشعوب.
من الطريف في الأمر أنّ بعض الدول احتياجات شعوبها الفيسيولوجية و الأمنية مُلبّاة و مستوفاة لكن في المقابل نادرا ما تسمع إنجازا علميا عربيا أو إبداعا منقطع النظير في الذّكاء الاصطناعي أو التأسيس لصناعة سينمائية أو نهضة فكرية أو علمية تتباهى بها أمام الأمم الأخرى.
هرم ماسلو ينبع من مسألة نفسية واعية يعلم الإنسان فيها ماذا يريد من نفسه ومن هذا العالم الذي يشتكي منه دائما. فلا ننتظر النظريات كي تُعلّمنا بأنّنا سقطنا في القاع رغم أنّه مزدحم. اللعنة على من لم يحفر قاع السّماء. لننتظر… ربّما…
كاتب تونسي.
شارك رأيك