“لا بدّ من التّجديد الّذي يجعل الأثر الأدبيّ مرآة للعصر بكلّ خصوصيّاته وأحكامه الاجتماعيّة والثّقافيّة والفكريّة وحتّى الاقتصاديّة والسّياسيّة. وبعد تأمّل في الوضع العربيّ الاجتماعيّ شدّتني الواقعيّة ورأيت فيها معالجا لواقع متردّ بعيد عن الخيال الّي يتغاضى عمّا يعانيه الانسان من فقر وظلم ومعاناة. فالأدب الواقعيّ مرآة تخزّن مشاكل المجتمع وقضاياه دون تقيّد بالنّوعيّة ولا بالصّنف ولا بالمذهب أو العقيدة”… هذا بعض ما تقوله الروائية التونسية حبيبة المحرزي في هذا الحوار الأدبي…
أجرى الحوار طارق العمراوي
كيف تقدمين نفسك للقراء ؟
أنا ابنة القيروان متحصلة على الأستاذيّة في الأدب والحضارة العربيّة من كلّيّة منّوبة. أستاذة أولى تعليم ثانوي. ولعت بالقراءة منذ الصّغر. ثمّ بالكتابة الّتي كنت أجد فيها متنفّسا للتّعبير عن كلّ ما يعتريني من مشاعر وأحاسيس مختلفة. أنا أيضا باحثة في المدارس النّقديّة. لي دراسات في دواوين شعر وروايات وقصص وتقديمات لدواوين شعراء وروايات ومجموعات قصصيّة من العالم العربيّ.
حاصلة على عدّة جوائز عربيّة. محكّمة في مسابقات القصّة والشّعر في عدّة بلدان عربيّة. نشرت روايتي الأولى “الوزر” سنة 2000 ثمّ مجموعة قصصيّة “قرار أخرس” سنة 2020 ثمّ رواية “سبع لفتات” سنة2021 ثمّ رواية” كفّارة” سنة 2022.
ما هي مشاريعك المستقبليّة؟
مشاريعي المستقبليّة كثيرة: مجموعة قصصيّة “هستيريا عروس منتصف اللّيل” و رواية “مراهقون لكن…” و سلسلة ” كاتب وكتاب”.
هل يتابع الكاتب اليوم الدّراسات النّقديّة الباحثة في أساسيّات البناء السّرديّ وتطوّره؟
الكاتب الّذي يبغي التّميّز ومسايرة العصر في كلّ تغيّراته مدعوّ إلى الاطّلاع على الدّراسات النّقديّة الباحثة في أساسيّات البناء السّرديّ وتطوّره لأنه لا يمكن لكاتب معاصر أن يتقيّد بما تقيّد به الكتّاب في القرن العشرين أو ما سبقه. لا بدّ من التّجديد الّذي يجعل الأثر الأدبيّ مرآة للعصر بكلّ خصوصيّاته وأحكامه الاجتماعيّة والثّقافيّة والفكريّة وحتّى الاقتصاديّة والسّياسيّة.
ما هي المدارس الأدبيّة الّتي تفاعلتم معها أثناء مطالعاتكم وكانت حاضرة أثناء الكتابة الرّوائيّة أو القصصيّة؟
بدأت بقصص الأطفال والألغاز ثمّ وككلّ مراهق ولوع بالقراءة والمطالعة فقد أبحرت في المدرسة الرّومنسيّة بكلّ ما تحويه من طبيعة ومشاعر جيّاشة تهتف بالحبّ والسّلم النّفسي والاجتماعيّ وما تؤثّثه من عالم خياليّ عفويّ بعيد عن قيود العقل وما تفرضه الكلاسيكيّة المتحجّرة فقد قرأت كلّ ما كتب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وخليل مطران وإيليا أبو ماضي. ولامارتين وفيكتور هيجو وغيرهم.
وفي مرحلة ثانية وبعد تأمّل في الوضع العربيّ الاجتماعيّ شدّتني الواقعيّة ورأيت فيها معالجا لواقع متردّ بعيد عن الخيال الّي يتغاضى عمّا يعانيه الانسان من فقر وظلم ومعاناة ولمل وجدت فيها من افتراض لحياة انسانيّة متوازنة. ووجدت الأديب يواجه الواقع ويجعل من الحاضر نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل ممكن التّحقّق بمعالجة النّقائص والخوض فيها بعمق. والمدرسة الواقعيّة لا تتنكّر للمدارس السّابقة مثل الرومنسيّة والكلاسيكيّة بل هي تأخذ من كلّ شيء بطرف. فالكاتب الواقعيّ يكتب عن الحبّ والوفاء والجمال والقيم والأخلاق مع تركيز واضح مع على القضايا الاجتماعيّة الطّاغية في زمن ما. والأثر الأدبيّ إن كان قصّة أورواية أو شعرا هو بالأساس وثيقة تهتمّ بواقع الانسان المظلوم الكادح أو الظّلم المتجبّر … إذن فالأدب الواقعيّ مرآة تخزّن مشاكل المجتمع وقضاياه دون تقيّد بالنّوعيّة ولا بالصّنف ولا بالمذهب أو العقيدة.
كيف تقيمون المشهد الابداعي اليوم في تونس كنصوص وكحركة نقدية؟
المشهد الإبداعيّ قي تونس اليوم في تحرّك زلزاليّ، وهي ظاهرة صحّيّة بالأساس لكنّ ما يخيف هو التّسرّع في الكتابة والنّشر. الكلّ يكتب وينشر والّذي يعقّد المسألة المجاملات من قبل الدّارسين و” النّقّاد” الّذين يسعون إلى إرضاء المؤلّف بالاقتصار على المدح والتّثمين والتّغاضي عن العيوب والنّقائص ممّا يراكم المؤلّفات الّتي لا ترتقي إلى العمل الإبداعيّ الحقّ الّذي منه يستفيد النّشء خاصّة والقرّاء عامّة.
لكن في المقابل برزت مؤلّفات قيّمة ثريّة وقراءات نقديّة صادقة بنّاءة، سيذكرها التّاريخ ويذكر أصحابها بخير.
رسائلكم ومضامين المتن الرّوائيّ والقصصيّ كيف يتمّ تحديدها والعمل عليها؟
أرى أنّ الكاتب الواعي مكلّف بمهمّة تجعله يتعقّب النّقائص والمشاكل ومسبّبات التّخلّف والمعاناة داخل المجتمع فيخوض في تلك البؤر ليكشف ما يحفّ بالشّخصيّات من أحداث تهوي به إلى مآسي المعاناة واليأس وقد تودي به إلى الانتقام والجريمة. مثل تفشّي تعاطي المخدّرات والإدمان بأنواعه والفقر والبطالة والطّبقيّة وظلم المرأة داخل الأسرة وخارجها مثل الاغتصاب وتسلّط الذّكر عليها أبا أو أخا أو زوجا أو مشغّلا. تشرّد الأطفال وتفشّي الجريمة والعنف بأنواعه مادّيا واجتماعيّا ونفسيّا وسياسيّا.
اليوم نعيش في مجتمع تحكمه الصّورة من تلفاز وانترنيت وهي وسائل لا تسعى غالبا لما فيه خير المشاهد لأنّ الغاية هي الرّبح المادّي شعارهم في ذلك الغاية تبرّر الوسيلة. لذا بتنا نعيش وسط مجتمع مشوّه وجب على المبدع أن يهتمّ بهذه الظّواهر كي ينسّب الأذى ويعدّل الكفّة نحو المعالجة والإصلاح.
انتصاركم للمدّ النّسويّ هل هو خيار مرحليّ أم توجّه يلازم الكاتبة كخطّ ثابت في مسيرتكم الأدبيّة؟
انتصاري للخطّ النّسويّ هو خيار مبدئيّ مادام الوضع على حاله. فما دامت المرأة تعاني وتضطهد من المجتمع الذّكوريّ الّذي يكبّلها بالقيود والواجبات دون اعتراف بحقوقها كعنصر فاعل مؤثّر في المجتمع الّذي تمثّل فيه النّصف مع أفضليّة طبيعيّة ربّانيّة إذ حباها اللّه بأن يكون لها شرف الحمل والإنجاب والرّعاية لكلّ كائن حيّ انسانا أو حيوانا حتّى.
وقد أثبت الواقع أنّ المرأة الحرّة المتعلّمة يمكنها أن ترتقي إلى أعلى المراتب والّتي قد تتفوّق فيها على الرّجل. فالمرأة اليوم مربّية وطبيبة وقاضية وقائدة طائرة وسياسيّة ناجحة إضافة إلى تربية الأبناء والسّهر على متابعة دراستهم بكلّ حرص وتفان.
ما دامت الفتاة تقصى من المدرسة لتعمل خادمة عند الأثرياء ومادامت الفلاّحة تتقاضى أجرا أقلّ من أجر الرّجل وما دامت الطّفلة تُحجّب باعتبارها عورة تفتن الذّكر ومادامت تعيش مع ذكر يستنكف من خدمة نفسه ويعاملها كخادمة توفّر له كلّ حاجيّاته في ذلّ واستكانة ومادامت تُحرم من الميراث من أخ متسلّط يهدّدها بالقطيعة إن هي طالبت بحقّها وما دامت تّعنّف وأهلها يقولون لها ( المرا الكلّ تتضرب) ما دامت المرأة في هذه الوضعيّات المشينة للذّكر قبل الأنثى فسأظلّ أصرخ وأكتب بكلّ جرأة وتحدّ حتّى آخر رمق من حياتي رواية وقصّة وشعرا. وإن لا مني اللّوّم وعاتبني المعاتبون.
ما هي المضامين والإشكاليّات الجوهريّة الّتي تمكّن الكاتب من ولوج العالميّة؟
الثّقافة العامّة الممتدّة هي الّتي تمكّن الكاتب من ولوج العالميّة، والخوض في القضايا الانسانيّة دون التّقيّد بالمحلّيّة الصّرفة يجعل كتابته ذات بعد توعويّ شامل مثال ذلك هذه الحرب البلهاء الّتي رجّت العالم اليوم وكشفت أنّ أغلب الشّعوب تقتات من خيرات أكرانية يجب أن تكون من أولويّات المبدع توثيقا وإثارة واستفزازا لمن يغمضون أعينهم عن الحقيقة المرّة. وإن قالوا بأنّ كل إناء بما فيه يرشح إلاّ أنّ المؤلّف اليوم لا يستطيع تجاهل مظالمة الشّعب الفلسطينيّ أو ما خرّب البلدان العربيّة من شبه ثورات بفعل فاعل مثل العراق واليمن وليبيا…
حتّى المجتمعات الغربيّة وما تمرّ به من أزمات يشدّ انتباه المبدع ويخوض في المسألة بطريقته. الإضرابات اليوم في فرنسا تهمّ الكتّاب لأنّنا شئنا أو أبينا فلنا مصالح مشتركة منها أبناؤنا الّذين خيّروا الهجرة على البطالة والتّهميش في بلد يخرّبه الفساد والنّهب والفوضى.
وتبقى التّرجمة للآثار القيّمة خير سبيل للانتشار في العالم كلّه.
أين ترتاح الكاتبة أعند مدارج القصّ بأبوابه أم مدارج الرّواية وفصولها؟
-القصّة القصيرة هي حادث أو وجع أو قرصة مباغتة تفاجئني وتشقيني للتّوّ فأقبض عليها وأكتبها لأتخلّص منها وأزيح وزرها عن كاهلي، وقد أنشرها أو أهملها. لكنّها تظلّ متنفّسا لي يشعرني بانفراج سرّي نفسيّ خاصّ جدّا.
أمّا الرّواية فهي حياتي كلّها. أبطالها يعيشون معي ويؤثّثون عالمي الخاصّ والعامّ فيتطوّرون معي ويُخذلون ويخيبون وييأسون معي أيضا. الرّواية تعزلني عمّا حولي ولو كنت بين النّاس فإنّ أبطال روايتي يتحرّكون معي. أحيانا أتوقّف في جانب الطّريق وأكتب الفكرة أو المشهد وكأنّني أصوّر حالة بكاميرا أ وعدسة تصوير.
الرّواية عالم فيه الحياة، الحبّ والكره، الظّلم والعدل، الانتقام والتّسامح، العنف واللّين، الجريمة والعقاب، الموت والحياة…
أعيش بالرّواية وللرّواية وبعض من قصص لا تنتظر أن تكون فصلا في رواية.
في نصّكم الرّوائيّ “كفّارة الحبس للنساء” حاورتم مجتمعكم التّونسيّ بامتياز. هل هو خيار لتقديم شهادة الرّوائيّ لمرحلة محدّدة من تاريخ بلدكم أم الواقع التّونسيّ فرض عليكم هذا الخيار ككائنات حسّاسة أنتم كتّاب الرّواية والقصّة والشّعر؟
-” كفّارة الحبس للنساء” هي صرخة من داخل السّجن وعلى قمّة جبل سمّامة. رواية أخذت منّي سنوات عديدة. كتبتها بوجع شديد. كيف تمرّ فترة حرجة من واقع بلادي وأنا أتفرّج على المكتسبات الّتي جعلتنا نرتقي في سلّم الحرّيات منذ زمن؟ تونس الّتي تتساوى فيها المرأة والرّجل أمام القانون. تونس الّتي يتعلّم أبناؤها في الأرياف والمناطق النّائية. تونس الّتي ينال أبناؤها المراتب الأولى في الجامعات العالميّة. أراها تتقهقر وتسقط في خزعبلات مدّعي التّديّن فحجّبوا الرّضيعة ونقّبوا الطّالبة وزوّجوا القاصر ونادوا بالتّعدّد وزواج المتعة والمسيار والسّفر. كيف أمرّ وخيرات بلا دي تُنهب ومصالحها تُعطّل وفقراؤها يزدادون فقرا ومنافقوها يزدادون غنى؟
“كفّارة” أردتها شاهدة على العصر إذا ما تناسينا هذه المآسي. أردتها برهانا للأجيال القادمة كي لا يسقطوا في جبّ المتسلّقين النّهّابين الفاسدين الّذين استباحوا قوت الفقراء وخرّبوا ونهبوا.
و قد فّارة صنّفها النّقّاد بأنّها من الأدب الغاضب. فعلا هي من الأدب السّاخط على جشع الإنسان وتجبّره وأنانيّته. كتبتها بجرأة رأى البعض أنّها شديدة وأقول لهم بأنّ ما رأيناه في هذه العشريّة الأخيرة أمرّ وأعنف وأخطر وأوجع وأنّني حاولت تنسيب المآسي والمواجع رأفة بالقارئ الواعيّ الإنسانيّ.
شارك رأيك