إذا كان الأساس في التغيير الثقافي هو تغيُّر العلاقات الإنسانية في المجتمعات فإنّ هناك فشلا معيّنا في المقاربات الجارية. فالمجتمع التونسي يشهد تنامي ظاهرة “التعجرف” و”الميوعة” و “قلة الذوق” و”انعدام اللياقة الاجتماعية” وبشكل ملفت للنظر. والذين يمثّلون هذه الظاهرة ليس فقط في الفئات المهمشة والجانحة من المجتمع بل في الطبقات المتوسطة والعليا وهذا بيت القصيد.
بقلم العقيد محسن بن عيسى
بات الجميع يعترف بأن ما يجري في المشهد العام في تونس يُبرز تضاربا واضحا وصريحا مع معيار الثقافة أحد المعايير التي تؤثر على قراءاتنا للواقع وللتاريخ. هذا المعيار الذي نقيس عليه في كثير من تقييماتنا في الماضي كما في الحاضر، فالثقافة هي الحاملة الشرعية لنظام حياة الشعب وأسلوب حياته ونظامه الفكري. والسؤال اليوم، هل هي مطلوبة في تقييم جملة ما نشاهده ونقرأه ونسمعه كتعبير عن الهوية الوطنية؟ والإجابة الأقرب هي النّفي.
مهدّدات الهوية الوطنية
لا شك أنّ تونس استطاعت عبر آلاف السنين تشكيل هويّتها الثقافية الخاصة، ووضعت الدراسات عدة تعريفات لها ولكن على مسالك مُختلفة ومناهج مُتباينة. كما عرفنا أنها خضعت لحقبة الاستعمار ونالت ما نالت من تشكيك في كافة الأوجه. وطبيعي أن تؤثر الهيمنة -ولو لاحقا- على القيم والمبادئ وتعمل على ترسيخ قيم الاغتراب بدعوى الارتباط بالتيار الحضاري العالمي.
يعيش التونسي حالة إرباك في الإدراك والتصوّر على مستوى التراث الثقافي، وهو نوع من القطيعة النسبية التي أثّرت في الاعتقادات والمفاهيم وساعدت على ظهور أساطير ونوع من السذاجة العامة. كما خلقت انحرافا ناشئا عن الميل إلى الغرب المادّي، وهذا النوع أثّر في الأخلاق والسلوك والأعمال.
هناك رواسب عائدة وهذه المرّة منّا وإلينا، رواسب لم تكتف بإهمال الثقافة الذاتية، بل عمدت إلى تسريب مضامين تشكّك في الثوابت وتتطاول على المقدّسات بدعوى تحرّي النزاهة والموضوعية، والطعن في الحقائق التاريخية تحت غطاء أو قناع النقد العلمي، وأخطرها تشويه صورة التونسي في بعض الكتابات التاريخية والروايات، والمسلسلات الهُجنة مع بعض الاستثناءات طبعا.
وتفسيرا لذلك، فقد ابتليت الثقافة وأدواتها بعدد من النظريات المستوردة القائمة على نزعة مادية ماكرة ومتحايلة ويبرز هذا في أسلوب التشكيك المتزايد، وهو أحد أساليب التخريب التي رفع لواءها المستشرقون وتلامذتهم المنسلخين عن هويتهم وأصالتهم. يمكن رصد حالات التشكيك عبر الأطروحات التي تعتبر أنّ ما عند الآخر هو أفضل ممّا نحن عليه، وأنّ الحلول في الحرية الشخصية والجنسية والمصلحية والاستقلالية والتسليم بصحّتها على حساب الهوية التونسية الأصيلة وضوابطها.
لقد لعبت الثقافة وتلعب عندما تهمّش أو تخرج عن نطاق السيطرة دورا كبيرا في نشر السذاجة. من المهم الحديث عن المعدلات العالية والتخصّصات العلمية، فالشهادة ضرورية لكنها لا تكسب الأشخاص ثقافة. لم تجد الأبحاث في عالم من علماء العصر القديم من كان جامعا للشهادات والألقاب فقط، ولكنها وجدت من أسهم بشتّى الطرق في إحداث نُقلة نوعية لدى البشر على مرّ العصور. من يتحمّل مسؤولية هذا الجيل الفاقد للطقوس الشخصية، والعادات والتفاصيل وله معرفة بالأكلات السريعة؟ الحياة ليست درس رياضيات كما يقال، وواحد زائد واحد ليسا بالضرورة، وليست في كل الأوقات إثنين.
الحفاظ على الهوية الثقافية
من الخطأ بداية تصوّر الهويّة وكأن لها حدودا معيّنة متفق عليها عالميا. والأصل أن نفهم الهوية الثقافية ليس كبناء أو تركيب من الماضي بل كمشروع يسمح بعمليات الانتقاء والاختيار. ويستوجب ذلك تحديد مفهوم الذاتية الثقافية التونسية، والاتفاق على كيفية اقتباس العناصر ذات القيمة من ثقافات أخرى، وتحديد المنهج الذي تستلزمه المرحلة. منهجا لا يقف عند المناسبات والتكريمات، ولا يكون دفاعيا كردّ فعل مثلما يجري هذه الأيام، وإنما يشمل الجانب البنائي الذي يُسهم في إطلاق قوى الإبداع وأسباب الابتكار لتحديد هوية الشعب المتجدّدة.
وممّا لا شك فيه أنّ الجدل السياسي عمّق ظاهرة الجهل بالآخر وصنع الحواجز داخل الثقافة الواحدة والشعب الواحد، وصعّد من حالات الاحتقان الفكري والثقافي هنا وهناك. لهذا السبب وغيره استقرّت ظاهرة التخلف من جديد وانعكست على الواقع المعرفي والثقافي للمجتمع. ونتيجة لذلك اتخذت كتب السحر والأبراج والخرافات والتطرف مساحات على الرفوف إلى جانب الكتب العلمية.
أعتبر أنّ “سلاح الثقافة ” ذا حدّين، أولهما “ثقافة الصوت المرتفع” التي تعمل من أجل الحرية وأداتها ووسيلتها الحوار وهدفها توعية المجتمع، والسمو بالأخلاق والمعرفة، وثانيهما “ثقافة الصمت” التي يتصف منتوجها بالخوف والجبن وعدم الثقة بالنفس. ثقافة ترسخ التسلّط وترفض الحوار وهدفها ترويض الجماهير والسيطرة عليها لتغرقها في وهم المبادئ والشعارات وتلقّنها نسخا اسطورية بعيدة عن الواقع.
وإذا كان الأساس في التغيير الثقافي هو تغيُّر العلاقات الإنسانية في المجتمعات فإنّ هناك فشلا معيّنا في المقاربات الجارية. فالمجتمع التونسي يشهد تنامي ظاهرة “التعجرف” و”الميوعة” و “قلة الذوق” و”انعدام اللياقة الاجتماعية” وبشكل ملفت للنظر. والذين يمثّلون هذه الظاهرة ليس فقط في الفئات المهمشة والجانحة من المجتمع بل في الطبقات المتوسطة والعليا وهذا بيت القصيد.
الثقافة اليوم ليس من مهمتها خدمة السلطة، وكذلك ليس من مهمتها مداهنة الشعب، بل مهمتها الأساسية أن توقظ فيه حسّ النقد، وحسّ الأخلاق التي لا يمكن أن تنحدر لسبب من الأسباب. صحيح أنّ بعض الأنظمة القوية في العالم لعبت دورا حاسما في تغيير توجّهات السياسة والثقافة ببلدانها، ولكن يغيب عن الأذهان أنّ الحصيلة ترجع في الأصل إلى الدور الطويل والمخلص الذي لعبه المثقفون من قبل. ويتعلق الأمر هنا بتغيير العقلية.
ضابط متقاعد من الحرس الوطني.
شارك رأيك