دعوني أفتتح هذا المقال حول مسألة الهجرة غير النظامية في تونس بهذه الجملة للكاتب الفرنسي لافونتان: “الجبل لا يحتاج إلى جبل لكن الإنسان يحتاج إلى الإنسان”. (الصورة : مستشفيات صفاقس تعج بجثامين المهاجرين الغرقي – رويترز).
بفلم فتحي الهمامي
صفاقس عاصمة جنوب البلاد التونسية، يتداول إسمها اليوم بقوة، وتتصدر نشرات الأخبار المحلية بطريقة لافتة، ليس لتعيين – بعد طول انتظار- واليا على رأسها، أو لإنجاز مشروع مصب بيئي على أرضها، إنما لتحول أرضها بأكملها إلى محطة لعابري سبيل، محطة مغادرة، ينطلقون منها إلى عوالم ما وراء اليم، ولا يدركونها…
المسافرون أفريقيون نتقاسم نفس القارة معهم ونفس الانتماء، من وراء الصحراء يَفِدُون على الخضراء، كما وفدنا نحن -يوما- إليها من الشام، والأندلس، والجزيرة العربية، أو من مصر، وتركية وجنوة…، وكذلك مثلهم من وراء الصحراء…
يدخل غالبيتهم هذه البلاد تونس بغير زاد أو زواد، فهم معدمون، مُعْوَزون، بائسون، مشردون، لا يملكون من الحياة سوى حلم في فؤادهم مسكون، لتكون لهم ملجأ وقتيا، محطة عبور لا غير، قبل المغامرة بالهجرة إلى أرض الميعاد: القارة الأوروبية العجوز…
صفاقس عاصمة الهجرة غير النظامية
صفاقس، مدينتي، وبالأرقام تحولت – في منطقة المتوسط – إلى عاصمة الهجرة غير النظامية، أو “الحرقة” كما يطلق على الظاهرة، ولكنها ليست سوى محطة، وإن لا تشبه محطات السفر العادية، فهي لا تملك لا سقفا، ولا تضمّ كراسيا، ولا شباك تذاكر، ولا تشتمل على وسائل نقل مكيفة، ولا برنامج انطلاقات، ولا خدمات، وليس لديها ناظر محطة، هي أشبه بالحضيرة أو الزريبة منها بالموقف، نزلاؤها على الدوام مُشرئِبّة أعناقهم إلى الشمال، شاخصة عيونهم لا تبصر غير البحر، فلا يشغل بالهم سوى الرحيل والمُهاجرةً، في اول فُرْصَةَ موعدها يحدده منظمو عمليات الحرقة، المتاجرون بالبشر… وحين تحين الفرصة، يندفع -في ليلة ليلاء- الحراقة البؤساء، لقطع البحر، وركوب الخطر، هذا البحر الغَدّار الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود. إذ ينْقَضّ على قوارب الموت المحملة بأكداس الضعفاء، فيفتك بهم فتكا (وفقًا للمنظمة الدولية للهجرة يعتبر وسط البحر المتوسط الطريق الأكثر فتكاً بالمهاجرين في العالم)، قبل ان يدفن أغلبهم في أعماقه… ورغم ذلك، فإن نفوسهم المتجرعة للعلقم لا يثنيها لا جبروته ولا اهواله، المهم عندهم إدراك بَرّ الطليان، وإن استحال ذلك فيؤثرون : “رقاد الجبّانه (على) عيشة الهانه”…
إلا ان “الجبانة” نفسها (أو المقبرة) تأبى أن تاويهم، بمثل بَرّ الرومان للأحياء منهم، فالرُقود في ترابها، وإقْبارُ مَوتى المهاجرين، أضحى عسيرا وغير هينا في صفاقس، فأعداد من يدفع بهم البحر جثثا إلى اليابسة لا تعدُّ ولا تحصى، حتى ان المقابر لتكاد تتقد احشاؤها… فالعدد الذي يلفظه البحر على سواحلنا أكبر من أن تستقبله غرفة الموتى، وارض المقبرة، ولكن ها هم التونسيون (طواقم أعوان البلدية، والحماية المدنية، والهلال الاحمر، والصحة العمومية) يتجندون لالتقاطهم برفق، بالعشرات يوميا، كما تلتقط الورود الملقاة في الطريق… فأشباه شمس الدين مرزوق – ذلك البحار الشهم ابن جرجيس الذي تولى في الأعوام المنقضية التقاط ضحايا الحرقة في جرجيس ثم مواراتهم التراب – عددهم غير قليل في بلادنا، والخَيِّرُون في هذه البلاد كُثْر، كالأب جوناثان، ذلك الراهب الأصيل، النيجيري الأصل، الذي اقام في صفاقس يوما، وقد سخّر نفسه -لسنوات- لتكريم جثامين المهاجرين غير النظاميين بمراسم دفن لائقة بعد أن تقذف بهم أمواج البحر الى الشواطئ، دأبهم جميعا: ” اللي يعمل الخير ما يشاورش”…
تكريم المهاجرين الغرقى بدفنهم
وتونس الحاضنة في أعماق أرضها لموتى من إخوتنا في الإنسانية من كل الألوان والأديان، اِحْتَضان الطَّيْر لِبَيْضِه، ليس عزيزا عليها بعث مَدْفن بصفاقس، للموتى من المهاجرين، تكريما لهم، ومن أجل راحتهم الأبدية…
ففي الطريق إلى قابس (بصفاقس) تتحاذى ثلاث مقابر: مقبرة اليهود، مقبرة جنود “الكومنوالث” الذّين سقطوا خلال الحرب العالمية الثانية ومقبرة المسيحيين وهي تضم اموات دفنهم ذلك الراهب الكريم بيديه…
هذه المدفنة أراها حديقة أفريقيا ثانية على شاكلة الأولى المشيدة في جرجيس، روضة في بستان زياتين غابة صفاقس، يصممها ويزوقها فريق من فناني الجهة، بمثل ما فعل في جرجيس الفنان الجزائري رشيد قريشي، وينتصب في وسطها قبْر الجنديّ المجهول (عدد لا بأس به من المهاجرين لا يعلم هويّتهم الصحيحة بسبب الوثائق المفتعلة التي بحوزتهم)، نُصُب تُقيمه الدَّولة لتخليد شهداء الحرقة، وضحايا الهجرة، يكون شاهدا على أنانية الشمال وظلمه، ومن أجل أن لا تقبر ابدا قضيّة الحق في العيش الكريم لابناء افريقيا.
مناضل حقوقي.
شارك رأيك