نظم مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف مائدة مستديرة تحت عنوان “المسرح خارج الركح للممثل وغير الممثل : تجارب متجددة ” وذلك في إطار فعاليات اليوم الثاني من المهرجان الدولي “24 ساعة مسرح دون انقطاع” الذي يتواصل إلى يوم غرة ماي 2023 بمدينة الكاف.
وجمعت هذه المائدة المستديرة عددا هاما من طلبة معاهد الفنون الدرامية وهواة المسرح وضيوف المهرجان الأجانب بالإضافة إلى ناشطين بالمجتمع المدني ومثقفين من عديد الاختصاصات الفنية والفكرية الذين عبروا عن أهمية وثراء التجارب التي قدمها المتدخلون باعتبارها تجارب عملية ومغامرات فنية تعنى بمسرح المضطهدين داخل تونس وخارجها.
ندوة ثرية وأبعد مايكون عن التنظير والأطروحات الفئوية النخبوية بل كانت ملائمة تماما للشكل المسرحي موضوع النقاش الذي يتخلى عن تحصنه بقاعاته ليحتضن الجمهور في فضاءاتهم الاجتماعية اليومية.
وافتتح الندوة الدكتور محمد مسعود إدريس الذي اعتبر أن المسرح خارج الركح مسرحا يتجاوز المسرح في أهدافه، لكونه يعتمد أساليب تقنية مختلفة ويشرّك أشخاصا وأوساطا من غير المسرح والمسرحيين بشرط أن تكون الرؤية حاملة لمبرًراتها. فهو يتجاوز شكلا الفضاء المعهود ويتمادى في ثرائه إلى ماهو أبعد من متعة المسرحية خلالها لحظات عرضها.
ورطة المسرح
كما أشار الدكتور إدريس إلى أن المسرح خارج الفضاءات، خلافا لقدرته على القرب و مواكبة التغيرات السريعة التي عاشتها تونس في العشرية الأخيرة، فإنه يمكن الشعوب المضطهدة خاصة في افريقيا من استعادة علاماتها الفنية المميزة كالأقنعة والرقصات والإيقاعات الخاصة التي هاجرت من موطنها الأصلي لتستحوذ عليها المتاحف والقاعات الفاخرة بأمريكا و أوروبا.
وخلال مداخلته استعرض الفنان المنصف الصايم تجربة مسرح فو من خلال العودة إلى فكرة مسرح السكة مع شباب وأطفال الشوارع التي انطلقت بفضاء مدار بقرطاج.
محمد مسعود إدريس و المنصف الصايم.
وبين الصايم أن الأمر أشبه بمفارقة جغرافية باعتبار أن منطقة قرطاج تعد من المناطق الراقية إن لم تكن الأرقى لكنها في الآن نفسه محاذية لسكة خصصها أطفال وشباب الأحياء الشعبية المجاورة لجلساتهم الخمرية وتعاطي الممنوعات.
وخلال عملية تنظيف موسعة لمحيط الفضاء الثقافي شبه الصايم الأمر باكتساح فضاء خاص بهم وحرمانهم من خلوتهم المعهودة.
ومن هنا انطلقت فكرة استقطابهم الى داخل الفضاء بدل طردهم من محيطه طمعا في توجيه طاقاتهم للإبداع دون نية مسبقة لإنتاج عرض مسرحي.
ولم تكتمل التجربة سوى مع شريحة منهم تتراوح أعمارهم بين 25 و 35 سنة تلقوا تكوينا مسرحيا مستلهما من تقنيات فنون القتال أساسا مع التركيز على جوانب التحكم وتوجيه الطاقة نحو الفعل الإيجابي لا العنف.
ومن جهته استهل الأستاذ أيوب الجوادي مداخلته بتعريف مسرح المضطهدين حيث وصفه بكونه شكلا مسرحيا يحول أفراد الجمهور إلى فاعلين وأبطال يغيرون واقعا تميز بالاضطهاد والظلم بدل التماهي معه.
كما عاد الجوادي بالحضور إلى إنطلاقة هذا الفعل المسرحي مع المسرحي والمناضل البرازيلي أوقيستو بوال في الستينات الذي عانى هو وباقي رواد مسرح أورينا بمدينة ساوباولو من اضطهاد العسكر الذين يراقبون أعمالهم ويضيقون من حولهم دائرة التعبير الى حد بلغ بهم الأمر إلى تعنيف الممثلين أثناء العروض.
وعوض أن تتسبب المضايقات في إبعاد الجماهير عن مسرح أورينا غامر أوقيستو بوال بالخروج إلى جماهيره وتقديم عروضه المحرضة على الثورة داخل فضاءاتهم الاجتماعية ومقرات تجمع العمال.
الأمر الذي دفع بأيوب الجوادي وعدد من الشباب الذين تأثرو بهذا الشكل المسرحي إلى الخروج بأنشطتهم ومحاولاتهم الإبداعية إلى خارج الفضاءات حتى بلغ بهم الأمر إلى تقديم عروض موازية لبعض المهرجانات خلال فعالياتها.
كما أوضح الجوادي أن تجربته تأثرت بأحداث جانفي 2011 التي مثلت حقلا مكثفا للعروض العفوية كما أماطت اللثام عن مواطن اضطهاد عديدة مسكوت عن ألمها لسنوات. ليستوجب تسارع الأحداث وتنوعها كسرا للقوالب النظرية والانفتاح بعفوية على المجتمع من خلال المغامرة في فضاءاته المتنوعة بما في ذلك وسائل النقل العمومي التي يشاهد ركابها عروضا ويتفاعلون معها دون سابق إعلام فيتمسرح بذلك واقعهم دون علم بوقوعهم في ورطة المسرح.
المسرح داخل السجون
من جهة أخرى استعرض الأستاذ محمد أمين زواوي تجربة المسرح داخل السجون من خلال اشتغاله مع نزلاء سجن برج الرومي ببنزرت الذي شيده الاستعمار الفرنسي سنة 1934 كثكنة عسكريّة ليتحول مع الأنظمة المتعاقبة إلى سجن مدني ثم معتقل للسياسيين وأصحاب الأحكام المطوّلة، الأمر الذي جعل عديد المنظمات العالمية تصنفه من بين أخطر 3 سجون في إفريقيا.
أما بخصوص تجربته فقد تحدث الزواوي عن مختلف الصعوبات التي اعترضته قبل انتاج مسرحية “وجيعة” سنة 2017 بعد سنة ونصف من التمارين والإعداد.
ومن أبرز الصعوبات التي عدّدها نجد دقة وحساسية التعامل مع المساجين الذين يضعون آليا مسافة بينهم وبين كل من يأتي به السجّان من وراء البوابة. كما أن نفسية النزيل متقلبة ولا دافع يحفّزه للمشاركة سوى الساعات الإضافية التي سيقضيها خارج الغرفة . وبين الزواوي أنه لم يكن مخرجا بقدر ما كان مؤطرا لأن العملية حسب وصفه لا تحتاج التقنيات الإخراجية المتعارف عليها بقدر ما تحتاج حلولا بيداغوجية وأساليب ذكية لتجاوز الوضعيات الحرجة.
أما بخصوص التجارب الأجنبية فقد قدم الكاتب المسرحي الفرنسي جيرارد استور، الذي اشرف على مسرح فينري منذ الثمانيات الى حدود 2010، لمحة عن تجربته في المقاومة من خلال المسرح التي انطلقت بالبحث عن العلاقة بين الفن الرابع ومواطن الإضطهاد في الواقع الإجتماعي. حيث انطلقت رحلته بالتساؤل حول كيفية المقاومة من داخل الكتابة ضد الإيديولوجيات الطاغية على المجتمع وحتى داخل الكتابة المسرحية نفسها.
وعاد جيرارد إلى الصراعات التي عاشها داخل حقل الكتابة التي استوجبت حسب وصفه بحثا عن مصادر قوة للصمود والمقاومة ولذلك كانت فكرة التوجه للجمهور خارج الفضاءات وخاصة العمال في المجالات الصناعية الذين يعانون بصفة مباشرة ويومية من سطوة الرأسمالية. إذ حاول هو ومن آمنوا بمغامرته إيجاد مقاربة تجمع بين ممارسات العمال في حضائرهم و ممارسات المسرحيين في فضاءاتهم. حيث تم التنسيق بين المسرحيين و النقابات العمالية ليتشارك الجميع بما يملكون من دوافع وتجارب تدعم صف المقاومة الى أن تمكنوا من فرض العروض بل وافتكاك تمويلات من المؤسسات الحكومية وحتى المصنعين أنفسهم.
شارك رأيك