هي الاصدار الثاني للروائي صلاح البرقاوي بعد اصداره “كازما” في 2019وقد جاءت في 341 صفحة وصدرت في نوفمبر 2022 عن دار أركاديا للنشر والتوزيع بتونس وقد ترشحت لجائزة الكومار الأدبية لسنة 2022 وهي رواية تلخص أوجاع ماضي ومعاناة البطل “الهادي” بين تيه العبارة ومتاهات “الاعتراف”وفي ربط متين بين حلاوة الخبر وبلاغات الشهوة والاهواء وتحولاتها العجيبة من بلاغة العشق الى عشق البلاغة وفتنة القول وصلف العبارة وفرار المعاني.
وفي الرواية وعي جارف عميق ان كل ماسي الهادي مردها الى معركة فاشلة في عمق الذاكرة وعبر لغة شعبية كاذبة وجريئة وكتابة من الذاكرة تنجلي تائهة نادرة وجريئة امام عنف لغة تثأر من كل شهوات الجسد الهاربة وأمام اخلاق كاذبة يتظاهر بحمايتها قضاة جهلة يقتاتون بكذب قانون يقتات بالتمويه بغنج العلامة واعتباطية فعل التسمية لتبرز الاسماء في الرواية من “سعيد “ماسح الاحذية الى الحبيب وعفيف وسالمة تحمل اعطابا وكدمات
ومن خلال قصّة بطلها هادي بازينة تفتح رواية “يخاف الأفراس”على قصّة جيل وطبقة من المجتمع التونسي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين والتحوّلات التي شهدتها تونس خلالها اذ بعد روايته “كازما”والتي تعرّض فيها إلى موضوع الإرهاب وعوامله ومخلَّفاته تأتي هذه الرواية الصادرة عن “دار أركاديا” لتتناول جدلية رغبات الجسد من جهة وتوق النفس إلى الحبّ والحنان من جهة أُخرى.
وتتهيكل هذه الرواية حول استذكار مراحل مختلفة من حياة هادي بازينة المتنقّل بين فضاءين خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين؛ بين “دشرة” في أحد أرياف الشمال الغربي التونسي جعل منها الكاتب مسرحاً لنقد عادات اجتماعية لا تكاد تتغيّر في سلوكها، متمسّكة بعادات وتقاليد محافظة، لا تؤمن كثيراً بالمستقبل وبشرط التغيير؛ حيث يعيش فيها الأطفال والرجال والنساء التهميش والبؤس وبين المدينة اي تونس العاصمة صدمت الصورة التي رسمها البطل عنها وحلم بها فقد اعتقد أنّه سيجد فيها كلّ ما يرغب من متع وملذّات، ولكنّه “أدرك مع الوقت أنّه لا فرق بين ريف ومدينة، إلّا بكثرة البناء وكثافة السكّان وعرف أنّ ما تمتاز به المدينة حقّاً هو توفيرها لخدمات استثنائية غير مرتبطة بخدمات الجنس المعروضة في المواخير.
وبين ثنائية الريف والمدينة يعيش بطل الرواية حالة الاختناق التي يعيشها الإنسان في المجالَين بين الشمال المسكون بالعزلة والفراغ الزمني والقسوة الحادّة في حياة أهلها كما يعيش بالعاصمة اجواء زحمتها وكثافة سكّانها ومقاهيها ومطاعمها واختناق العلاقات الاجتماعية فيها والقائمةِ في العديد من وجوهها على الانتهازية والاستغلال والملذّات وبين هذا وذاك يأتي السرد في لغة هذه الرواية فصيحا صافيا وعبر حوارات بلهجة دارجة مباشرة حميمية وجارحة أحياناً، وواقعية وصادقة.
واذ تندرج هذه الرواية ضمن رواية السيرة الذاتية فانها كانت البلسم لجراح كاتبها وبطلها في الان ذاته إذ لم تكن في الأصل سوى وسيلة اقترحها الطبيب النفسي عليه بعد أن لجأ إليه هادي بازينة ليساعده في حلّ مشكلة عجزه الجنسي مع زوجته زهرة، وما إن عرف أو توهّم أنه استعاد نشاطه الجنسي مع ليليا، حتى قرّر الكف عن الكتابة بعد انتفاء الحاجة إليها حسب زعمه، إلّا أنّ وهجها كان أكبر من رغبته، فاستسلم لها واستأنف الكتابة بكتابة أحاسيسه وذكرياته وتجاربه لتكون هذه الرواية حيلة فنّية سردية استلهمها الراوي لاكون هذه الرواية في النهاية قصّة جيل كاتبها وقصّة طبقة من المجتمع التونسي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين والتحوّلات المهمّة التي شهدتها تونس خلالها لتكون بذلك شهادة على تحوّلات المجتمع التونسي النفسية والفكرية.
واذ ركزت هذه الرواية على مظاهر العنف وقسوة الظروف الاجتماعية فأنّها في الحقيقة اهتمت بمسألة الحب لتأتي في النهاية رواية سردية عن مواجع القلب وأشجان الروح ونداء الحب حيث رسم لنا البطل أيضا صورة عن العلاقات الاجتماعية القائمة على المحبّة والصحبة الصادقة والألفة الخالية من المصالح
في هذه الرواية تتجلى قدرة كاتبها على الإمساك بفن الرواية بناء وأسلوبا وتشويقا وعمقا اذ جاءت لغتها عربية صلبة سليمة وحوار شخوصها الذي يورده الكاتب بلهجتنا التونسية فيه من الشحنة والجمال الذي يضيف للنص ابداعا لا يفوت متذوقا للأدب الا ان ينوّه به
وهذه الرواية تصلح في النهاية ان تكون وثيقة مرجعا للدراسات الاجتماعية والانتربولجية لفئات اجتماعية سليلة الوسط الشعبي وخاصة من “الأفاق” أو الدواخل الريفية وعلاقتها بالمدينة، منذ استقلال البلاد
والطريف فيها هذا الجمع الفريد بين الجانب التاريخي في أحداثها على غرار أحداث الخبز في فترة حرجة من تاريخ تونس الحديث واقتحام الروائي مواضيع تعتبر من”الطابوهات” في مجتمعنا وحتى في الأدب العربي عامة على غرار كتب”الإيضاح في علم النكاح” للشيخ النفزاوي أو “نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب ” للتيفاشي
في النهاية يمكن ادراج رواية “يخاف الأفراس” في جنس الأدب الواقعي اذ هي تجربة ذاتية للمؤلف ذاته في كثير منها وما جادت به ذاكرته من احداث ووقائع حفرت فيها طيلة مساره طفلا و تلميذا و طالبا وموظفا ومنغمسا في الحياة في مدينة تتضارب فيها الفوارق والنجاحات وحتى المآسي.
جدير بالذكر ان الروائي صلاح البرقاوي هو من مواليد منطقة ببرقو بولاية سليانة سنة 1959 وقد زاول تعليمه الابتدائي بها ثم تعليمه الثانوي بالمعهد الثانوي بسليانة حيث حصل على البكالوريا آداب سنة 1978 ودرس الحقوق بكلية الحقوق والعلوم السياسية والعلوم الاقتصادية وحصل على الإجازة في سنة 1983 وقد انخرط في القضاء بداية من سنة 1984 إلى سنة 1995 ثم استقال منه في سنة 1995 ليلتحق بالمحاماة وقد درس أثناء ذلك بمعهد الدفاع الوطني وقد نشر رواية أولى بعنوان ” كازما”سنة 2019.
- منصف كريمي
شارك رأيك