الأزمات في تونس تتتابع وتتراكم وتتسارع وتحمل في عبورها مثل التيار التواطؤ والغرور. هكذا أرى واقعنا يشكو من ضعف الإرادة السياسية ومن انقسام المجتمع. لا تجعلوا من تونس “قرية بوتمكين” ولا تراهنوا على الخوف كرادع أول للراي العام.
بقلم العقيد محسن بن عيسى
الكل في تونس يعيش على إيقاع انقطاع الماء والكهرباء، وندرة بعض المواد الغذائية والصفوف أمام المخابز وعديد المؤسسات الاجتماعية والخدمية. فضلا عن الجدل السياسي حول إمضاء مذكرة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي ومحاولات التشكيك في مآلاتها.
من النبض إلى الهستيريا
على هامش هذا المشهد، عاينت صدفة صرخة ألم من أحد المسنين يشكو من انقطاع الكهرباء ببيته منذ أمس ولم يجد من يساعده مردّدا: “هاذي بلاد توّا..هذه بلاد توّا !؟” وكأنه يقول لحاله ومستمعيه ليس هناك أي وجه شبه بين الأمس واليوم.
ذكّرني هذا المشهد برسالة كان وجّهها أحد المتقاعدين في فرنسا إلى رئيس الجمهورية السابق نيكولا ساركوزي على ما أذكر، يعلمه فيها أنه يشعر بالخوف عند الخروج من شقته لقضاء مآربه ولا يشعر بالأمان. وفي هذا إخلال من الدولة في نظره بواجبها تجاهه بعد السنوات التي قضاها في خدمتها والضرائب التي خصمت من مداخيله لفائدتها.
أسرد القصة مع اعتبار الفارق في الثقافة السياسية طبعا بين المثالين، هناك إرث ثقافي سياسي في العائلات بفرنسا وثقافتنا السياسية لدينا لا زالت ثقافة ” صمت القصور”.
أعتقد أنّ القرار السياسي في الأنظمة المتطلعة يحتاج إلى أن يتفاعل ويتأثر بمواقف الرأي العام أو نبض الشارع واتجاهاته. وأنّ هذه النماذج من التعبيرات الشعبية لخير دليل على مدى الإحباط الكبير واليأس وفقدان الأمل في المسؤولين. لقد اختزلنا الرأي العام في تونس عن جهل في مُظاهرة هنا أو مهرجان خطابي هناك أو بكائية شعرية هنا وهناك. ضاع الرأي العام بضياع صفة الاستمرارية والمساندة المادية.
من الناحية الأخرى، تتوالى سلسلة الإقالات والتعيينات… أهي معالجات موضعية؟ أم ترضيات سياسية؟ أم مُسكنات لآلام قديمة؟ حالات الهستيريا التي تصيب الشارع تعكس انقطاعا court-circuit في تيار التفكير الإستراتيجي عندنا. لا شك، أنّ لدينا مختصين في قطاعات حيوية ومحلّلين وخبراء واستراتيجيين غير الذين يدخلون بيوتنا بدون استئذان… خبرات بلغت مستوى لا بأس به من الجاهزية والفاعلية. هل تعرض جميعهم للتهميش؟ أين هؤلاء؟
معضلة الفراغ الاستراتيجي
لست ناقدا… ولا حالما، ولكن الواقع يشير أن البلاد تشكو حالة “فراغ استراتيجي” ولعله في كل المجالات. نحن نعيش في عصر يتزايد فيه إهمال الأفكار الإصلاحية وفرض الرقابة الموجهة. لقد عشنا حالات سابقة مع وزراء كان تقديرهم للعمل وللبرامج لا يتعدى السنة أو السنتين وهذه هي المدة الافتراضية التي حددوها لأنفسهم للبقاء في المسؤولية.
عشنا تجربة الرؤى الضيّقة. عرفنا أيضا حالات فولكلورية عبر مواكب لا تنتهي من التدشينات والتكريمات والاستقبالات على حساب الإنجاز الفعلي وأخذ الوقت الكافي لتدارس الملفات الحرجة والحسم فيها. واستغربنا من إعادة مذكرات لا جديد جوهري فيها سوى بعض الكلمات وتغيير التاريخ وإضافة إسم وزير. هكذا تعاملوا مع الملفات وهكذا ذهبوا لمزبلة التاريخ دون تعميم بطبيعة الحال.
لا تعيدوا إلينا لو سمحتم هذه الصور المشوهة للواقع في قوالب جديدة.
من السهل اليوم وخلافا لزمننا الحصول على المعلومة مهما كانت سياسية، عسكرية اقتصادية أو علمية وتبادلها وتحليلها ومع ذلك لم تنجح الإدارة في استغلالها والتعامل معها. هناك حالة اجترار وبعض الخبراء يكرّرون انفسهم ويصنعون اليأس. ما هي غايتهم؟
الدول الناجحة اليوم هي التي استفاقت منذ الحرب العالمية وقررت معالجة أهم مؤسساتها التي “شاخت أو كبرت” وعملت على المدى القصير والمتوسط والبعيد لإصلاحها. وأخرى شمرت على السواعد منذ استقلالها للتحول من التخلف الى دول نامية ومتقدمة. ما الذي منعهم من أن يشرحوا لنا تجربة سنغفورة التي تحولت من مستعمرة متخلفة بلا موارد لتصبح نمرا آسويا ودولة من دول العالم الأول ونموذجا يحتذى به لكل دول العالم النامي، وتجربة رُوندا هذه التجربة الحية التي يشهدها عالم اليوم. روندا التي تحولت من الإبادة العرقية إلى التنمية الشاملة؟
الأزمات تتتابع وتتراكم وتتسارع وتحمل في عبورها مثل التيار التواطؤ والغرور. هكذا أرى واقعنا يشكو من ضعف الإرادة السياسية ومن انقسام المجتمع. لا تجعلوا من تونس “قرية بوتمكين” ولا تراهنوا على الخوف كرادع أول للراي العام.
شارك رأيك