يمرّ اليوم عامان على انقلاب 25 جويلية 2021. لقد انقلب قيس سعيد على دستور 2014 ومكاسبه المعمّدة بدماء الشهداء، على الدستور الذي أوصله إلى قصر قرطاج في انتخابات 2019 وأقسم على احترامه.
كما انقلب على شركائه في السلطة من قوى اليمين الرجعي بزعامة حركة النهضة التي كان لها ولحليفها، “ائتلاف الكرامة”، دور بارز في فوزه بالانتخابات الرئاسية. وقد دخل معهم في صراع محموم، على حساب مصالح الشعب والوطن، دام حوالي العام والنصف، محوره الانفراد بالحكم. وقد اعتمد سعيّد في انقلابه على أجهزة الدولة ودعم بعض القوى الرجعية الإقليمية مستغلا النقمة السارية في صفوف الشعب على حكم حركة النهضة وحلفائها الذين تنكّروا لمطالب الشعب والثورة واستمرّوا لمدة عشر سنوات في خدمة مصالح حفنة الأثرياء المحليين والدول والشركات الاحتكارية والمؤسسات المالية الدولية وأداروا الدولة كغنيمة لصالحهم وصالح أتباعهم وأنصارهم.
وقد انبنى مجمل خطاب الانقلاب على وعد الشّعب التّونسي بـ”تصحيح المسار” وتحقيق “الإصلاح والانقاذ” وطيّ “صفحة العشرية السوداء” و”إعادة السلطة للشعب صاحبها الأصلي” لتحقيق مطالبه الأساسية في الشغل والحرية والكرامة الوطنية. وقد انخرط في جوقة “المُطبِّلين” والمفسّرين حتى من كان مشاركا ومستفيدا من الحكومات اليمينية السابقة. وها هي النتائج اليوم في مختلف المجالات تكذّب ادّعاءات الانقلاب ومريديه. إنّ كل المعطيات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والثقافية والأمنية والبيئية والأخلاقية/القيمية والدبلوماسية تبيّن أنّ تونس في أسوأ حالاتها، بل إنّ تونس انتقلت من الأسوأ إلى الأكثر سوء في كافة المجالات وأنّ انقلاب 25 جويلية 2021 ما هو إلاّ الحلقة الأخطر في مسار الثورة المضادة التي التفّت على ثورة الشعب وخانت طموحاته.
1- إنّ الخطاب الرسمي الشعبوي، اليميني، المتطرّف وإن كان يركّز، لتغطية فشله، على أنّ التدهور الذي نعيشه اليوم يعود “إلى تركة الحكام السابقين” وعلى رأسهم حركة النهضة، فإنّ الحقيقة غير ذلك. فالحكم اليوم ممركز في قبضة واحدة، مكرّسا الانتقال من ديمقراطية بورجوازية هشّة وحتى شكلية ومتعفّنة إلى حكم الفرد. لقد حلّ قيس سعيّد المؤسسات التمثيلية (برلمان، بلديات…) والهيئات الدستورية المنتخبة على علّاتها (المجلس الأعلى للقضاء، الهيئة المستقلة للانتخابات، الهيئة الوطنية لمقاومة االفساد…) ووضع يده على كافّة مؤسسات الحكم، كما لم يحصل من قبل بهذا الشكل الفجّ، ليقوم مقامها مُسندا بنفسه وإلى نفسه كلّ الصلاحيات عبر سلسلة من الأوامر والمراسيم في البداية ثم عبر دستور كتبه بنفسه ولنفسه في سابقة فريدة من نوعها. لقد انفرد سعيد بالحكم ونصّب من حوله مؤسسات فارغة، طيّعة، بلا صلاحيات: حكومة تنفيذ وبرلمان دمى وقضاء تعليمات وهيئة انتخابات مطيعة، ومسؤولون لا ميزة لهم سوى الولاء…كل هذا دون الحديث عن الفراغ واللخبطة الإداريّين: ولايات دون وال وسفارات دون سفراء أو قناصل ومنشآت عمومية دون مدراء عامّين…
أمّا خارجيا فقد تعدّدت مظاهر التطبيع مع الكيان الصهيوني كما أنّ الضعف والوهن الاقتصاديّين والماليّين والسياسيّين اللذين أصبحت عليهما تونس فسحا المجال لمختلف القوى الاستعمارية لتكثيف تدخلها في الشأن التونسي رغم الخطاب الرسمي الزائف حول السيادة الوطنية.
2- لقد ترافق كل ذلك مع مسعى محموم لتصفية أهم مكتسب حققه الشعب التونسي بثورته ضد الدكتاتورية وهو مكسب الحريات. فأصدر المرسوم 54 سيء الصيت وعزّز سلطة الأجهزة الأمنية وصعّد في القمع الذي يطال اليوم سياسيين وإعلاميين ونقابيين ومدوّنين ومحتجّين مع عيش البلاد على نسق من الرعب كلمة السرّ فيه “من سيكون ضحيّة الاعتقالات القادمة”، كل ذلك في مناخ قمعي يستهدف إسكات الخصوم السياسيين وتدجين الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمات المجتمع المدني خاصة التاريخية منها، المستقلة والفاعلة، تحت غطاء شعارات كاذبة مثل “مواجهة المتآمرين والخونة ومجوّعي الشعب وناهبي المال العام”. ويمثّل هذا المناخ إطارا للتلاعب بالملفات الحارقة وفي مقدمتها ملف الاغتيالات السياسية والإرهاب والفساد ونهب المال العام في وضع بلغ فيه تركيع القضاء وتوظيفه درجة لا تختلف عما بلغته في عهد الدكتاتورية إلاّ في أشكالها الفجة إذ أنّ قيس سعيد أعطى نفسه رسميا صلاحية تسمية القضاة وإعفائهم متى أراد.
3- وإذا كانت حركة النهضة ومثيلاتها من الحركات عملت على تقسيم التونسيين بتوظيف الدّين فإنّ سعيّد يستعمل خطاب “التخوين والتآمر” للقيام بنفس الشيء وبثّ مشاعر الكراهية والحقد و”الشماتة” والفتنة في صفوف الشعب التونسي لحرف اهتمامه عن قضاياه الأساسية.
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ معاداة قيس سعيد للمساواة بين نساء تونس ورجالها، بعناوين زائفة حول “العدل والعدالة”، ما انفكت آثارها تبرز في المجتمع من خلال استشراء العنف ضد النساء وتدهور أوضاعهن المادية والمعنويّة والتراجع عن مبدأ التناصف في الانتخابات الخ…
هذا وتعرف بلادنا لأوّل مرة موجة عنصرية بهذه الخطورة ضد الأشقّاء الجنوب الصحراويين والتي أعطى إشارة انطلاقها سعيد نفسه في شهر فيفري الماضي، وهو ما استغلته حكومات اليمين الشعبوي المتطرف والعنصري في أوروبا وفي مقدمتها إيطاليا لإمضاء مذكرة اتفاق مع سعيد، مهينة ومذلة، لتحويل الدولة التونسية وأعوانها إلى حارس حدود مقابل فتات من المساعدات اللوجستية والمالية علاوة على قبولها طرد مهاجريها غير النظاميين من أوروبا وإعادتهم إلى تونس بدعوى مساعدتهم على إقامة مشاريع محلية، وهو ما يخالف التشريعات الإنسانية الدولية المتعلقة بالهجرة واللجوء والتي تجرّم مثل هذا التهجير القسري.
4- إنّ هذا الانتقال السياسي الاستبدادي الخطير الذي عرفته بلادنا مع انقلاب 2021 والذي يضرب في العمق مطمح الشعب التونسي في إقامة جمهورية حقيقية، ديمقراطية وشعبية، بل يخرجه من سياق أيّ نظام جمهوري مهما كان، قد رافقه الحفاظ على نفس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية اللاوطنية واللاشعبية. إنّ “الحاكم بأمره” ما انفكّ يقدّم فروض الطاعة والولاء للمنظومة الطبقية السائدة والمتحكمة في كل مفاصل الاقتصاد الخاضع خارجيا لهيمنة نفس الدول والشركات والمؤسسات المالية الاستعمارية الغربيّة، وداخليا لسلطان نفس العائلات المتنفذة التي تضع يدها على القطاعات والمؤسسات الربحية مثل المصارف وشركات التأمين والفضاءات التجارية الكبرى وفروع الشركات الاحتكارية العالمية، ولنفس أباطرة الاقتصاد الموازي الذي مازال يحوز على أكثر من نصف النشاط الاقتصادي العام. إنّ هذه الفئات الطفيلية التي ظلت تدعم نظام الحكم الدكتاتوري في تونس منذ عقود لتمثّل قاعدته الطبقية الأساسية، واصطفت بعد الثورة وراء حكم “الترويكا” بقيادة حركة النهضة ثم وراء حكم “نداء تونس/حركة النهضة” و”يوسف الشاهد/حركة النهضة” و”حركة النهضة/قلب تونس/ائتلاف الكرامة”، نراها اليوم تصطفّ بانتهازية مفضوحة وقديمة-جديدة، وراء الشعبوية اليمينية المتطرفة لأنها ترى فيها، باستبدادها ومعاداتها لكل “الوسائط” من إعلام حر وأحزاب وجمعيات ونخب مثقفة، الضامن لمصالحها أمام تنامي السخط الشعبي و الاحتجاج الاجتماعي الذي يجد في هامش الحريات المفتكة سلاحا للتعبير عن مطالبه.
5- إنّ النتائج مدمّرة في مختلف أوجهها للوطن والشعب. إنّ الوطن على حافة الإفلاس وهو يعاني من تبعية متفاقمة: مديونية ثقيلة جدّا وعجز تجاري غير مسبوق وتضخّم نقدي برقمين أو يقارب الرقمين، وتفكّك مستمر لمنظومات الإنتاج الخ… وكلّ هذا له انعكاسات مدمّرة على حياة الناس: بطالة عامة، فقر مدقع يشمل حوالي ثلث السكان، هجرة غير نظامية متصاعدة (حرقة)، مغادرة عشرات الآلاف من الكفاءات البلاد فرارا من الانهيار الذي طال الفئات الوسطى من المجتمع، مقدرة شرائية منهارة نتيجة الارتفاع الجنوني للأسعار وضعف الأجور والمداخيل، فقدان أو ندرة المواد الأساسية التي انضاف إليها اليوم الخبز، الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي ومياه الشرب في وضع مناخي صعب للغاية، تدهور الخدمات الصحية والبيئية، انهيار المنظومة التربوية بشكل غير مسبوق، تفاقم الجريمة وخاصة تناول المخدرات والكحولية… ولا يجد قيس سعيد وأتباعه من وسيلة لمواجهة تذمرات الشعب من أوضاعه المتدهورة باستمرار غير بثّ الأوهام حول “المليارات” التي سوف تأتي ولن تأتي وحول الثروات المخزونة في تونس الخ…
6- إنّ حزب العمال الذي لم يتردد في إصدار الموقف السياسي السليم من انقلاب 25 جويلية 2021 منذ اللحظة الأولى، رغم الحملات التي استهدفته والتي وصلت حدّ التخوين، وهو الموقف الذي أكدته مجريات الأحداث طيلة العامين المنقضيين، فإنّه:
ـ يعتبر أنّ الشعبوية اليمينية المحافظة والمتطرفة والمعادية للديمقراطية هي الحلقة المتقدمة من حلقات الثورة المضادة التي بدأت تفعل فعلها منذ اليوم الأول لإسقاط الدكتاتورية للالتفاف على ثورة الشعب التونسي وتخريبها، وهي تمثل اليوم الإطار السياسي والفكري للاستبداد وللخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقيميّة التابعة والرجعية، وهو ما يعبّر عنه بوضوح دستور الاستبداد والحكم الفردي المطلق ومجمل ترسانة الأوامر والقوانين والممارسات القمعية والتعسفية التي تكرّس حكم الفرد “المتألّه”.
- كما يعتبر أنّ نتائج حكم سعيد التي يعيشها وطننا وشعبنا اليوم والتي بلغت درجات خطيرة للغاية من التدهور المنذر بالانهيار (مديونية ثقيلة، عجز تجاري غير مسبوق، ارتفاع جنوي للأسعار، تفاقم البطالة والفقر و”الحرقة”…) هي نتائج حتمية لمواصلة تطبيق مجمل الخيارات النيوليبرالية المتوحشة المكرسة للتبعية العضوية للدول وللمؤسسات الرأسمالية الاحتكارية والحاضنة للتفقير والتهميش للأغلبية الكادحة والشعبية ولا تمثل مجرد تركة للحكام السابقين لأنّ قيس سعيد لم يغيّرها ولن يغيّرها.
- يؤكد أنّ منظومة حكم قيس سعيّد، مثلها مثل المنظومات التي سبقتها لا علاقة لها بالثورة ولا بمصالح الشعب والوطن وهي تدفع بالبلاد بخطى سريعة نحو الانهيار وأنّ المتضرر الأساسي من هذه الوضعية هو الشعب بمختلف طبقاته وفئاته التي ما انفكت تدفع الفاتورة من جلدها ودمه ولا نخال صمت الأغلبية الشعبية إلاّ حالة مؤقتة ولّدتها خيبات الأمل وسياسة الإحباط والتقسيم الممنهج التي اتبعتها مختلف قوى الثورة المضادة في الداخل والخارج. إنّ الاستغلال والاضطهاد يولّدان المقاومة وهذه المقاومة تتنامى والأوهام حول الشعبوية تنزاح تدريجيا وما على القوى الثورية والتقدمية إلاّ القيام بدورها في التوعية والتنظيم.
- يجدّد قناعته أن لا حلّ لمعضلات تونس إلاّ بالنضال الشعبي الواعي والمنظم ضد الشعبوية الحاكمة وضد قوى اليمين الأخرى التي خبرها الشعب التونسي قبل الثورة وبعدها (تجمّعيون، ظلاميّون الخ…) والتي تريد العودة إلى الحكم بأشكال وأسماء وعناوين جديدة. إنّ الحل الجذري لتونس وشعبها ليس سوى خيارات جديدة تقطع نهائيا مع التبعية والاستبداد والفساد وتؤسّس لديمقراطية شعبية تعيد السيادة للشعب والوطن، ودونا عن ذلك سيظل شعبنا يدفع الفاتورة غاليا لحساب منظومة حكم لا تخدم فعليا إلاّ مصالح اللصوص والمافيات المالية والاقتصادية والمتهربين والمهربين.
- يؤكّد وقوفه المبدئي والصارم والدائم في وجه كل انتهاك للحريات الفردية والعامة ولمبدأ المساواة وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال وعموم الكادحين في المدن والأرياف والمعطلين عن العمل والنساء والشباب. ومن هذا الموقع فهو:
- يجدّد مساندته لكافة ضحايا القمع، المعتقلين أو الملاحقين من أجل نشاطهم السياسي أو التعبير عن آرائهم أو مشاركتهم في الاحتجاجات الاجتماعية ويطالب بإطلاق السراح الفوري لكافة المعتقلين منهم وإيقاف التتبعات ضدهم كإيقاف التتبعات ضد الملاحقين منهم سواء كانوا في الداخل أو الخارج.
- يؤكد وقوفه إلى جانب مدرّسي التعليم الابتدائي في محنتهم ويستنكر كل محاولات شيطنة العمل النقابي والمدني بهدف تصفيته وتصفية أو تحييد أو تقزيم المنظمات والجمعيات القائمة عليه ومن بينها منظمة حشاد، الاتحاد العام التونسي للشغل.
- إذ يجدّد في هذه المناسبة التي نحيي فيها الذكرى العاشرة لاغتيال الشهيد الحاج محمد البراهمي، تمسكه والتزامه بمواصلة النضال من أجل كشف حقيقة الاغتيالات السياسية ومحاسبة الضالعين فيها تنفيذا وتخطيطا وتستّرا، فإنه يؤكد رفضه أيّ تلاعب بهذه القضية وغيرها من القضايا المهمة الأخرى وتوظيفها، معتبرا أنّ المحاسبة وكشف الحقيقة يتولاهما قضاء مستقل في نطاق دولة قانون ديمقراطية، تحترم مبادئ المحاكمة العادلة.
- يسقط الانقلاب
- السيادة للشعب والتحرر للوطن
- لا شعبوية، لا دساترة لا خوانجية
- عاشت الثورة التونسية
- من أجل جمهورية ديمقراطية شعبية
تونس في 25 جويلية 2023
شارك رأيك