إنّ التاريخ لا يرحم، ولا يحابي، ونحن لا نريد أن نحابي أحدا. ولكن بورقيبة وفي ذكرى عيد ميلاده 3 أوت 1903 بقي حاضرا بالغياب فشرعنة ممارسة السلطة لديه وتكريس السيادة لم تقم عبر أفكار طوباوية أو شعبوية بل على تدابير وقرارات مرجعية واقعية غيرت البلاد من حال الى حال. لكنها منذ 2011 تسير على غير هدى مثل قارب دون ربان في قلب العاصفة.
بقلم العقيد محسن بن عيسى
كلنا نتفق على أنّ الشعب التونسي يبحث عن الخلاص، ويستنفر كل طاقاته ليفرّ من لعنة العشرية المنقضية ويهرب من زمنها المر. لقد ألهمت حالات الفوضى والعبث واللا جدوى التي تعيشها البلاد أحد الكتاب العرب ليخصّص فصلا كاملا عنا في كتابه الجديد “الشعبوية أو الخطر الداهم”، ليس للتذكير بتونس الخضراء، أو تجربتها في التخطيط وتنظيم الأسرة والتعليم والصحة وغيرها، بل للتعريف بالشعبوية في تونس اليوم.
الكتاب صدر هذه السنة ويتناول الظاهرة كخطر يهدّد الديمقراطية ويتوعّد العيش المشترك. هل إلى هذا الحد تعتّمت صورة تونس، وإلى هذا الحدّ سقطت دولة بورقيبة إلى التشظي، والتشرذم، والهدم والعدم؟
شبهة الشعبوية
يطارد “شبح” الشعبوية ” البلاد منذ 2011 بشكل مائع في سياق ظاهرة عالمية لها جذور ويتّسع مجالها مند نهاية التسعينات. فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان تحت تأثير حزب سياسي شعبوي وهو حزب الاستقلال، وصعود الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتقدّم مارين لوبين في انتخابات 2022 كان عن طريق إغراءات هذه الظاهرة. والأمثلة متعددة في إيطاليا واسبانيا والبرازيل، وهنغاريا والسويد وغيرها.
ويبدو أن حضورها لا زال محتشما في العالم العربي غير أن بعض الأدبيات الحديثة تشير إلى ارتسامها لدينا منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة. لا اريد الوقوف عند بعض الأسماء التي تكرّس الشعبوية بشخصياتها وصفاتها الحزبية والسياسية فهذا خارج عن دائرة اهتماماتنا. فالغرض من المقال هو التأكيد على أن هذه الظاهرة ليس لها أي مستقبل في تونس طالما تنادي “بديمقراطية مزيفة” تقوم على إضعاف الدولة… دولة القانون والضوابط والتوازنات.
يقال ان مفهومها ملتبس، ولكنه قديم قدم الديمقراطية ويغطي مجالات سياسية متنوعة. وخطورتها تكمن في مواقفها التي تقطع مع تقاليد راسخة في العمل السياسي لخدمة الصالح العام والمتمثلة في “الديمقراطية التشاركية”. هذا فضلا عن تهميشها للمؤسسسات التمثيلية وتشكيكها في مصداقيتها.
هذه الشبهة لا تخدمنا فتونس بلد صغير تتجاذبه إرادات دولية وإقليمية، وعلى كل القوى الوطنية أن تعمل على تجاوز خلافاتها السياسية وإعداد البلاد للخروج من أزمتها والانطلاق في الإصلاح. فمناخ الاستثمار الخارجي التي نطمح إليه يقوم أساسا على سمعة الدولة ومستوى الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي بها.
ركوب الحديث باسم الشعب
سمعنا شيئا من هذا القبيل في بعض الخطب خلال الحكومات المتعاقبة ولا زلنا نسمع إلى اليوم، ولأن مشابهة الحقيقة عند منظّري الشعبوية لم تترسخ ولم ترتق لتصبح متطابقة مع هو متفق عليه في الراي العام، فقد ظلت تعكس دلالات سلبية.
الشعبوية لا تقدّم بدائل سوى الوقوف على المظاهر السلبية وإلقاء المسؤولية على النخب والحال أن البلاد تحتاج إلى “خارطة طريق” واضحة ومحددة. لا يمكن الوقوف فقط عند الخطاب الحمائي، والدعوة لإحياء الهوية القومية، والجدل السياسي الديماغوجي، فالبلاد تنتظر تفعيل القوى العاقلة لجمع الأطراف والاتفاق على رؤية مشتركة.
على هذا المعنى قد نفهم بعض النوايا الحسنة في تشكيل الديمقراطية من جديد ولكن ليس بشكل فردي ووفق نظرة أحادية. صحيح أنّ التغيير يفرض منطقه وضروراته ولكن دون تعميق الفجوة بين الرافضين والداعمين للمشهد السياسي الحالي.
الخلاصة أن ركوب الحديث باسم الشعب والتعبير عن “الاستياء الشعبي” لمواجهة النخب ومؤسسات الدولة ونسف الديمقراطية من الداخل مقاربة موسومة بالفشل. البلاد نفد زادها وكذلك صبرها ولم تعد تتحمّل تجارب أخرى بعد الخونجة والثورجة. ولا أرى دون تهويل أو تهوين أن الشعب يقبل الانسياق والانزلاق نحو دوامة أخرى من المغامرات والصدامات والإثارة ومهاجمة الجميع.
إنّ التاريخ لا يرحم، ولا يحابي، ونحن لا نريد أن نحابي أحدا. ولكن بورقيبة وفي ذكرى عيد ميلاده 3 أوت 1903 بقي حاضرا بالغياب فشرعنة ممارسة السلطة لديه وتكريس السيادة لم تقم عبر أفكار طوباوية بل على تدابير وقرارات مرجعية واقعية غيرت البلاد من حال الى حال.
ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك