“رُبَّ يومٍ بكيْتُ منه فلما … صِرْتُ في غيرِه بكيْتُ عليه”… ورقات من ذاكرة شاعر كان في ماض قريب أحد الشعراء الشبان الواعدين في تونس و الوطن العربي وهو اليوم من “شيوخ” الشعر في المنطقة.
بقلم سُوف عبيد
1 ـ من الطرائف التي عشتها مع أصدقائي الشعراء في أجواء حميمية وإنسانية ظلت راسبة تبعث البهجة والحنين في ذاكرتي رغم ما كان فيها من مواقف صعبة أو محرجة أحيانا لا بأس أن أحدثكم عن الأمسية الشعرية التي برمجها لنا سنة 1974 أحد أصدقائنا من الشعراء الأعضاء بنادي الشعر بدار الثقافة اِبن خلدون والذي كان يدرُس معنا بكلية الآداب بتونس فاِقترح علينا أن ينتقل نادي الشعر إلى دار الثقافة بنابل لنقيم بها أمسية شعرية بناء على دعوة اِتصل بها من مديرها فكان هذا الاقتراح من صديقنا تحوّلا تاريخيا في نشاطنا الأدبي الذي كنا نطمح أن يكون مشعا خارج العاصمة حتى نلتقي بجمهور الشباب وغيرهم من الذين لا تصل إليهم قصائدنا خاصة في المناطق النائية فكان تنظيم تلك الأمسية أوّل خروج لنا من العاصمة لنقرأ نصوصنا أبعد من أبواب مدينة تونس وقد تكفّل صديقنا الشاعر بتنظيم جميع التفاصيل كيف لا وهو اِبن ولاية نابل وصاحب العلاقات الوثيقة بالصحف النّافذة وصاحب الكلمة المسموعة لدى الدوائر الإعلامية وقتذاك لذلك اِنفتحت لنا أبواب أمانينا على مصراعيها ورفرفت بنا أحلامنا الوردية خاصة وصديقنا أكّد أنّنا سنحظى باِستقبال بهيج من ممثلي السلطة الجهوية وقد طمأننا أنه إذا اِمتد الوقت المخصص للقراءات فلا بأس علينا ولا نحن نحزن لأنّ العشاء سيكون بأحد الفنادق الفاخرة في الولاية بل حتى المبيت سيكون متوفّرا لمن أراد ذلك.
2 ـ لا تَسَلْ عن فرحتنا بتلك الأماني خاصة أن أسماءنا صارت مقروءة في الجرائد والمجلات الثقافية مثل مجلة الفكر وجريدة الصباح والملحق الثقافي لجريدة العمل وغيرها وصارت نصوصنا وحتى صورنا إلى جانب الأدباء الأكبر منا سنّا ومسيرةً وقد بدأ الأصدقاء في اِستعراض قائمة أصناف الأطعمة الفاخرة مع المشروبات المتنوعة فكنا إذا جلسنا في مقهى لونيفار في شارع بورقيبة أو في مقهى الأندلس قرب جامع الزيتونة عنه لا يكون الحديث بيننا إلا حول الرّحلة الموعودة والأمسية المرجوّة والعشاء بما لذّ وطاب والمبيت في فندق الرّفاه وعندما قرب موعد الاِنطلاق بيوم أو يومين زفّ لنا صديقنا خبرا مهمّا فقد أكّد لنا أن حافلة خاصة ستأتي من نابل وتنقلنا إلى دار الثقافة هناك وضرب لنا موعدا فعَدّلنا كلّ مواقيتنا على الواحدة بعد الزّوال من يوم الجمعة القادم أمام دار الثقافة ابن خلدون.
3 ـ كان اليوم ربيعيا باذخا وقبل الواحدة اِجتمعنا أمام دار الثقافة في اِنتظار قدوم الحافلة السياحية الخاصة غير أنّ صديقنا مهندس الرّحلة وقائدها لم يحضر وقد قاربت الواحدة فقلنا لعله منشغل بأمر تنظيمي طارئ وعندما فاتت الواحدة بربع ساعة ولم يأت ولم تأت الحافلة كمثل صاحبة الشاعر الحبيب الزناد التي كان ينتظرها (و لم تأت) في قصيدته “المجزوم بلم” غير أن صاحبنا خالفها وأتى وقد بدا وجهُه مكفهرّا وسرعان ما حلّقنا به مستفسرين فأخبرنا أن الحافلة ما زالت في المستودع وحتى إن أتت فستصل متأخرة لذلك لابدّ أن نعجّل بالذّهاب خاصة وأن محطة القطار قريبة وسينطلق بعد نصف ساعة ولست أذكر كيف تدبّرنا أمر ثمن التذاكر بالتعاون مع بعضنا ونحن نمنّي أنفسنا بالأمسية الشعرية التي ستكون إنجازا تاريخيا لنادينا الحديث النّشأة ولم نشعر بمدة السّفرة لأننا انشغلنا بقراءة نصوص قصائدنا ومراجعتها حينا وأحيانا بتعداد أصناف المآكل التي تنتظرنا بعد الأمسية في الفندق ذي الخمس نجوم أو الأربع على الأقل وما زاد في تأكيد يقيننا أن صديقنا قائد الرحلة ومنسّق الأمسية بدا على ثقة تامة من إنجاز ما وعده لنا وما زلت أتذكّر كيف أنّ أحد الأصدقاء الشعراء توعّده بأن يلقي به في سكة الحديد أو الطريق عند العودة إذا لم نجد في نابل ما حدّثنا به.
توقّف القطار في نابل وهي آخر محطّاتهنزلنا. بقينا برهة ننتظر لعل أحدًا يستقبلنا ويرحّب بنا. غادرجميع المسافرين المحطة. لم يبق إلا نحن. وقفناوكما يقول المثل التونسي “وقف الزّقاق بالهارب”.
4 ـ وَجَمَ صديقنا وظلّ برهة لم ينبس بحرف ثم قال سأنطلق إلى دار الثقافة وأعود بسرعة فهي قريبة عند ذاك اِنفجر البعض غضبا واِنفجر البعض ضحكا أما أنا فقصدت لوحة مواعيد سفر القطارات العائدة إلى تونس وبعد وقت طويل ثقيل لاح صديقنا قادما يجر أذيال الخيبة وبحزن كبير أعلمنا أنه وجد أبواب دار الثقافة مغلقة ولا حياة لمن دقّ عليه أو نادى …
كنا شبابا لم تتجاوز وقتها العشرين إلا بسنة أوسنتين عشقنا الأدب والشّعر وعزمنا أن نكون إضافة لحركة الطليعة في تونس تلك التي ظهرت في أواخر ستينيات القرن العشرين وكانت ضمن رجّة شاملة في المجتمع وهزّت بوضوح أكثر تعبيرات المسرح والموسيقى والرّسم والقصة والشعر طبعا.
وأعود بالحديث عن تلك الأمسية فقد أعلمنا صديقنا أنه اِتفق مع مدير دار الثقافة على جميع ما وعدنا به لكن يبدو أن قرار التنفيذ لم يكن بيده وسُحب من تحته البساط ربما لأننا شعراء غير مرغوب في سماع قصائدهم ذات المواضيع الملتزمة بالقضايا السياسية والاِجتماعية ولسنا من الأسماء الأدبية الموالية أو المؤلّفَة قلوبهم أو ربّما أيضا لعدم التنسيق الدقيق والخلاصة أننا عُدنا كما يقول المثل بخُفّي حُنين أو بيد فارغة والأخرى لاشيء فيها.
5 ـ تحيّةُ وفاء لذلك الجيل الذي عشت في أحضانه بتجاربي الأولى في الكتابة والنّشر والنشاط الثقافي وأذكر خاصة من الذين رافقتهم في هذه الرحلة الشاعرين مختار اللغماني وعبد الحميد خريف رحمهما الله وتحية مودّة إلى صديقنا الشاعر محمد أحمد القابسي الذي كان من أبرز الشعراء المجدّدين في سبعينيات القرن العشرين وقد كان المنسّق الرئيسي لنادي الشّعر في فترته الأولى لكن صديقنا محمد أحمد القابسي اِنقطع تواصله مع الشّعر منذ سنوات طويلة فأرجو أن يعود إلى النشر والنشاط ويا ليته ينظّم لنا أمسية أخرى إن أمكنه ذلك وسيكون النقل والعشاء والمبيت على حسابنا طبعا !
شارك رأيك