الظاهر أن مشاعر النفور و الكراهية تجاه الوجود الفرنسي في أغلب الدول الإفريقية قد بلغت مداها أو ذروتها و أصبحت فرنسا في نظر الشعوب الإفريقية مجرد دولة استعمارية استغلت القارة السوداء و أفقرتها لعقود طويلة كما ينظر المراقبون إلى فرنسا بأنها تقف وراء حماية عديد الأنظمة الديكتاتورية عديد الانقلابات المشبوهة التي حدثت و أسقطت عديد الرؤساء الأفارقة الذين آمنوا بأن النضال ضد الاستعمار و الوجود الفرنسي هو فرض عين و ليس فرض كفاية.
. بقلم أحمد الحباسي
المشكلة هذه المرة أن الانتفاضة و مشاعر الكراهية قد خرجت للشارع في عديد الدول الإفريقية في نفس الوقت مع ارتفاع صيحات المطالبة برحيل المستعمر الفرنسي فورا و المشكلة أيضا أن أصحاب الانقلاب في بعض الدول الإفريقية مثل بوركينا فاسو و النيجر و الغابون و ربما السينغال قريبا كما تؤكد بعض المؤشرات قد توجهوا بأصابع الاتهام مباشرة للحكومة الفرنسية.
من الواضح أن المخابرات الخارجية الفرنسية قد “راحت عليها نومة” هذه المرة تماما كما حصل في تونس و المؤكد أن الرئيس الفرنسي ايمانوال ماكرون قد تفاجأ تماما بسرعة تنفيذ الانقلابات في هذه الدول و باعتبارها للسفير الفرنسي في كل منها شخصا غير مرغوب فيه مع محاصرة شعبية لصيقة للقواعد الفرنسية التي كانت تحرس الأنظمة الديكتاتورية و تقوم بدور فعال في نقل الثروات المنجمية التي تزخر بها هذه الدول التي لا تزال تعانى من الفقر و انعدام المرافق العمومية إضافة إلى ارتفاع عدد العاطلين عن العمل رغم ما تختزنه أراضيها من مناجم و ثروات متعددة قادرة أن تجعل منها دولا راقية مع مستوى دخل فردى محترم.
الشعوب قد أصبحت لا تطيق التواجد الفرنسي
ليس غريبا إذن أن تتحدث وسائل الإعلام الفرنسية بالذات عن حالة امتعاض كبرى لدى الرئيس الفرنسي من أداء مدير المخابرات الفرنسية السيد برنار إيميى الذي تسلم تلك المسؤولية منذ سنة 2017 .
ديغاج فرنسا، هذا الشعار تم ترديده منذ فترة من طرف عديد الجماهير الغاضبة في عديد الدول الإفريقية مثل ليبيا و مالي منذ سنة 2019 و رغم تزايد عدد أعوان المخابرات الفرنسية المتواجدة في البلدين بحجة مواجهة و تتبع العناصر الإرهابية و رغم اللعب على كل الحبال فقد تبين أن هذه الشعوب قد أصبحت لا تطيق التواجد الفرنسي في كل عناوينه و لا ترى في الحكومات الفرنسية إلا شريكا للحكام الديكتاتوريين في نهب خيرات بلدانهم و الصمت على ما يتخلل الانتخابات من تزوير مفضوح أدى مثلا لبقاء الرئيس الغابوني عمر بونقو ما يناهز 40 سنة في الحكم و توريثه لأبنه المخلوع منذ أيام الرئيس على بونقو الذي لا يقل فسادا عن والده و ما شاهده المتابعون من عثور أجهزة الأمن من أموال خيالية بمقرات عائلة الرئيس دليل ثابت على نوعية الحكام الذين تساندهم فرنسا.
بطبيعة الحال و فى بلدان مثل الغابون و النيجر و بوركينا فاسو أين ترتع مخابرات كبار دول العالم فمن المؤكد أن بعض هذه الأجهزة لم تتبادل المعلومات مع المخابرات الفرنسية لأسباب سياسية إستراتيجية متعلقة بإضعاف الموقف و الوجود الفرنسي في هذه البلدان التي باتت تستقطب أنظار عديد الدول مثل روسيا و تركيا و المغرب على وجه الخصوص.
لا يمكن الحديث عن الانقلابات الأخيرة الحاصلة في النيجر و الغابون و بوركينا فاسو دون الحديث عن تنامي الوجود الروسي في هذه البلدان بالذات و لذلك يعتبر كبار المحللين في العالم أن فرنسا التي شاركت في المؤامرة الأمريكية ضد روسيا بحجة غزوها لأوكرانيا و ساهمت مباشرة في الحصار الاقتصادي و في توجيه عديد الأسلحة الفعالة لتدعيم القدرات القتالية للجيش الأوكراني و بالذات ما نشر عن غضب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من ازدواجية و نفاق خطاب الرئيس الفرنسي ايمنوال ماكرون عليها أن تدفع فاتورة باهظة جدا و أن الدبّ الروسي باستقطابه هذه البلدان بما تمثله من ثروات و قطع دابر الوجود الفرنسي قد حقق ضربة إستراتيجية و اقتصادية و سياسية تاريخية و أن الوجود الفرنسي في إفريقيا قد تعرض إلى هزيمة غير مسبوقة و غير متوقعة بمثل هذا الحجم جعلت الرئيس الفرنسي يراجع كل حساباته و يتعرض إلى حملة سياسية و إعلامية تتهمه بالرعونة في تسيير دواليب الدولة و ضرب المصالح الفرنسية و التسبب في كارثة كبرى للمؤسسات العاملة بهذه البلدان إضافة لإضعاف الوجود العسكري فيها بما سيكون له انعكاس فعلي و مباشر على كيفية جمع المعلومات و إعداد المخططات لمواجهة الإرهاب في بلدان مثل النيجر و مالي و الذي يهدد المصالح الفرنسية في إفريقيا.
الروسيا تكتسح الفارة السمراء
يردد البعض مقولة أن العامل اغير الجيّد لا يستعمل إلا الأدوات الغير الجيّدة و هذا المثل ينطبق تماما على الرئيس الفرنسي ايمانوال ماكرون الذي يجمع المراقبون على سوء تسييره و رعونة تصرفاته خاصة ضد بعض القادة الأفارقة الذين لم يتورعوا عن أهانته مباشرة في بعض زياراته إلى إفريقيا مما جعله مضغة ألسن الطبقة السياسية الفرنسية و إذا حصدت أمريكا ما حصدته من خسائر بشرية في أحداث 11 سبتمبر 2001 نتيجة رعونة رئيسها جورج بوش الإبن و جعلته يطلق عبارته الشهيرة ضد العرب متسائلا في غباوة مفضوحة: “لماذا يكرهوننا” فإن الرئيس الفرنسي يجد نفسه يتساءل نفس السؤال ضد الشعوب الإفريقية التي تحاصر كل مقرات التواجد الفرنسي في هذه البلدان.
لقد عبّرت روسيا دائما عن وقوفها إلى جانب قضايا التحرر و لم تتدخل لفرض وجودها في إفريقيا و لم ينكر كبار المسؤولين الأفارقة أنهم تخرجوا من الجامعات الروسية و لذلك ليس غريبا أن تحظى روسيا اليوم بهذه المكانة في قلوب الشعوب الإفريقية التي تبحث عن التخلص نهائيا من الاستعمار الفرنسي الناعم الذي استنزف كل خيراتها و مواردها و زاد من تعاستها.
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك