حتى تبقى جزيرة جربة العريقة مشعة ثقافيا وعلميا وتراثيا على مستوى العالم لتكون مقرا للبحث والمعرفة والابتكار لا مجرد مكان يستمتع به السياح.
بقلم فوزي بن يونس بن حديد
لا شك أن جزيرة جربة من الجزر الاستثنائية في العالم، لما تحويه من معالم أثرية ومواقع استراتيجية وأماكن تراثية بقيت شاهدة إلى اليوم على البطولات التاريخية للجربيين حينما وقفوا وقفة جادة وحادة في وجه الإسبان المحتلين وأخرجوهم من جزيرتهم أذلاء بل بنوا برجا من جماجمهم أخفت السُّلطات معالمه خوفا على السياحة، لكن إسمه ظل محفورا في تاريخ جزيرة جربة وحينما بنوا مساجد على أطرافها وفي وسطها لنشر العلم والمعرفة.
ووقعت معركة الإسبان حينما تكالب على الجزيرة الأعداء وأرادوا احتلالها واستخفوا بمواطنيها، غير أنهم وجدوا رجالا أشداء على الأعداء، رحماء بينهم، علّموهم معنى النضال والجهاد من أجل الوطن، وعلّموهم معنى حب الوطن، وعلّموهم أن النصر حليف المظلومين وأصحاب الحقوق في جميع الميادين، فكانت معركة شرسة رغم تفوق الأعداء عُدّة وعددا، ولكن الله على كل شيء
قدير.
عمق الإنسان الجربي
علّمتنا هذه المعركة أن الاستسلام والخنوع ليس من شيم الجربيين لا قديما ولا حديثا، ومن أراد أن يدخل الجزيرة محتلًّا سيرجع خائبا، ومن جاءها زائرا أو مستوطنا سيقيم فيها مكرّما، كما علّمتنا أن التاريخ سيبقى شاهدا على بطولة أمّة كان الإسلام عنوانها، والأخلاق مبادئها، والمعاملات ترجمانها، فحازت السبق في قيادة الجزيرة نحو برّ الأمان، والسكينة والاطمئنان، وهدوء المكان.
واليوم وبعد تاريخ حافل بالأمجاد والتراث، تبقى هذه الآثار دليلا على علاقة المسلمين بالمساجد، حيث كانت مأوى للعلم والتربية والتعليم والتخطيط للحياة ومواجهة التحديات، لذلك بُني بعضها على حافة البحر للدفاع، وبعضها فوق الرُّبى للترصّد، وبعضها في الداخل للتعلم، فهي علامة بارزة وواضحة على عمق الإنسان الجربي، في التمسك بالعلم والحفاظ على الوطن.
وبعد أن أعلنت منظمة اليونسكو رسميًّا إدراج جزيرة جربة ضمن التراث العالمي، تبيّن للعالم أن هذه الجزيرة كابدت من أجل البقاء ذات يوم، ورفضت كل مقوّمات الاستعمار والاحتلال وفرض واقع جديد، وسوف تواصل النضال من أجل أن تبقى كذلك شامخة وباسقة ترفض أي تشويه لهذه الأماكن لا سيما المساجد التاريخية التي بناها الأجداد حتى سُمّيت الجزيرة باسمها، جزيرة المساجد والقرآن.
واليوم إذا أردنا الاحتفال بهذه المناسبة، إنما نريد أن نبرز عظمة هذا المكان ليس بالرقص والغناء والطبل والمزمار، وإنما بالتكبير وقراءة القرآن وأناشيد العزّة والإصرار على النصر في جميع الأوقات، فماذا سيقول عنا أجدادنا ونحن نحتفل بهذا الإنجاز بهزّ الخصور وضرب الطبول فإن ذلك لن يعيد لنا لذّة الانتصار.
إذا أردنا الاحتفال بهذا الإنجاز فإنه يكون من خلال إعمار المساجد وإرجاع دورها الأساس في تعليم الإنسان وتربيته وتكوينه حتى يكون عنصرا صالحا في المجتمع لا عنصرا يتكئ على من قبله من الناس ويبقى يبكي على الأطلال دون جدوى.
مطلب جربة ولاية 25
نأمل أن يحمل هذا الإدراج إضافة قوية لجزيرة جربة حتى تحصل على مكانتها المهمة التي فقدتها طيلة العقود الماضية، وتسلك طريقها نحو الانتصارات بمختلف أنواعها، ولعل مطلب جربة ولاية 25 من أهمها ما دامت قد حازت على اهتمام اليونسكو بصفتها منظمة عالمية تسعى لإبراز الهُوية الإباضية لهذه الجزيرة العريقة.
وتظل مسألة إدراج جزيرة جربة ضمن التراث العالمي وتشرف عليه منظمة اليونسكو بين متفائل يتمنى أن تحظى الجزيرة بدعم واضح لترميم جميع هذه الآثار وتعوّل عليها باعتبارها منظمة عالمية لها صيتها وقدرتها على جمع التبرعات اللازمة لذلك، مما يسهم في انتعاش الحركة السياسية وريادتها، وبين متشائم استقبل الخبر بحذر شديد لأنه يعلم أن مثل هذه المنظمات العالمية لا تعمل ببراءة وإنما تُخفي ما لم تظهره للعلن حيث يرى أنه يمكن أن تفرض هذه المنظمة شروطها القاسية على تونس عموما وجربة خصوصا كما تفعل
المنظمات العالمية الأخرى وتستغل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتهالكة في تونس لتمرير ما تريد تمريره من أفكار وتغيرات جذرية فيما يتعلق بالآثار التاريخية والتراثية.
وبين هذا وذاك، يبقى عامل الزمن كفيلا بتصويب هذا أو ذاك، أو بتخطئة هذا أو ذاك، ولكن نرجو أن تبقى جزيرتنا مشعة ثقافيا وعلميا وتراثيا على مستوى العالم لتكون مقرا للبحث والمعرفة والابتكار لا مجرد مكان يستمتع به السياح وتكثر فيه الميوعة وانحلال الأخلاق، ونرجو أن توحي هذه الآثار للإنسان الزائر عظمة تاريخ أجدادنا الأشاوس الذين أرادوا لجربة أن تكون مركزا عالميا يجذب العلماء والموهوبين والمبتكرين قبل الفنانين واللاعبين ومن على شاكلتهم.
شارك رأيك