من المسرحيين التونسيين المتمردين الذين يطرحون في أعمالهم عديد الأسئلة الحارقة والكونية للإنسان نجد المسرحي غازي الزغباني الذي تطرّق في جل أعماله المسرحية الى ما يسمى بالثالوث المحرّم أو المسكوت عنه أو التابو ونقصد الدين والجنس والسياسة، وكأنه يسعى من خلال مسرحه الى تحقيق طوباوية نهاية الرداءة والوصول الى المدينة الفاضلة.
لا فنّ دون تمرّد وهو ما جعل عددا كبيرا من المبدعين والفنانين عبر كل الأزمنة في الصفوف الأولى للثورات ولحركات التغيير الاجتماعي، فالفنان يختزل في أعماله وإبداعه إرادة التحرّر والإنعتاق، فهو المحمّل بالقضايا الانسانية وهو السدّ المنيع ضدّ كل التقاليد البالية والأنظمة المستبدة، ومن الطبيعي أن يكون المسرح “أب الفنون” اللغة التي تدغدغ العواطف وتستفز العقول وتحاكي الواقع لا فقط الاجتماعي والثقافي بل والسياسي أيضا… على خشبته تطرح عديد القضايا السياسية ذات الصلة الوثيقة بالهمّ الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، وهو ما يعبر عنه بالمسرح السياسي أو مسرح “التسيّيس”.
وكعادته كان غازي الزغباني وفيّا لمسرحه الذي عودنا به في مسرحية “الفيرمة” التي شاهدها جمهور تظاهرة “الخروج الى المسرح” مساء السبت 23 سبتمبر 2023 بقاعة الجهات بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي.
“الفيرمة” انتاج فضاء “الأرتيستو” تمثيل كل من محمد حسين قريّع وإباء حملي ويسرى الطرابلسي وأسامة غلام وغازي الزغباني الذي تكفل أيضا الى جانب النص والاخراج بموسيقى العمل، إضاءة وديكور سليم الزغباني.
تحرير كل العصافير من أقفاصها
خمس غرف منفصلة… خمس شخصيات… يجتمعون داخل “فيرمة”، يعيشون داخل قوقعة من العزلة الموحشة، تسلط الإضاءة في كل مشهد على غرفة لتكشف لنا ما تحمله من أسرار … حيث نجد الفنان مجدي الشاب الذي يحلم بتحرير كل العصافير من أقفاصها، لكنه مكبّل بالخوف، الخوف من مواجهة المجتمع والنور والسلطة العليا المتمثلة في الأخ المتسلط والعنيف ليجد نفسه رغم حبه للفن وللحياة منبطحا ومنوّما ومغيّبا عن واقعه، غرفة أخرى بها الزوجة فارحة وما أبعدها عن السعادة، فهي الزوجة الخاضعة لسلطة الزوج، المغيّبة عما يدور حولها من أحداث، غرفة ثالثة بها الطيّب أو العصا الغليظة للسلطة التي تنفذ الأوامر دون تفكير، والرابعة بها ميساء الناشطة الحقوقية الرافضة للظلم والفساد الثائرة على الوضع والمتمردة على الواقع السياسي المتعفن… أربع شخصيات تخضع لجبروت سي لمجد أو السلطة فهو الزوج المتغطرس والأخ العنيف والسيّد المستبد والفاسد والرئيس الظالم والانتهازي… شخصيات تعبر عن فئات كثيرة من مجتمعنا تعيش بيننا ومعنا… وربما “الفيرمة” هي الوطن الذي نعيش…
محاكاة الواقع السياسي التونسي
“الفيرمة” عمل مسرحي يتناول بالأساس قضية الفساد السياسي واستعداد السياسيين لفعل أي شيء مهما كان الثمن من أجل تلميع إسمهم وتبييض صورهم من خلال سرد قصة رجل ثري ذي نفوذ وتأثير كبير في المشهد السياسي، لمجد يتعرّض لحملة كبيرة من الانتقادات والتشكيك عبر شبكات التواصل الاجتماعي تقودها ميساء ناشطة حقوقيّة شابة تدير صفحة مشهورة و مُتابَعة بشكل كبير مختصة في فضح ملفات الفساد مما يتعارض مع طموحاته السياسيّة و يدفعه لتهديدها و مضايقتها حتى يتورّط في اختطافها وإخفائها في ضيعته أو “الفيرمة”.
تحاكي “الفيرمة” على مدار ساعة وعشرين دقيقة الواقع السياسي التونسي، وتقدم نماذج عن شخصيات مرت بالمشهد السياسي منذ الثورة الى اليوم، “الفيرمة” هي الأمس والآن والغد.
مجدي وميساء وفارحة والطيّب ولمجد… شخصيات مركبة تعبر عن الأنا والآخر وتروي قضية وطن ينخره الفساد السياسي والأخلاقي وقضية شعب يتوق الى الحرية والتحرّر والخروج من القفص… قفص الاستبداد والظلم والإهانة وتحقيق العدالة الاجتماعية… وهو ما تجسده نهاية المسرحية بمشهد قتل مجدي للمجد وتحرير ميساء من الدهليز المظلم، “صحيح حررتك أما بعد ما اغتصبوك” بهذه الجملة يسدل الستار على “الفيرمة” عن الوطن المغتصب…
ختاما نشير الى أهميّة المؤثرات الصوتية التي رافقت العمل، حيث أضفت الموسيقي والعزف المباشر مسحة من المصداقية، إضافة الى الإضاءة التي حاكت تطور الأحداث وتصاعدها .
شارك رأيك