الغرب و اليهود والقضية الفلسطينية من خلال نص للكاتب الأمريكي اللبناني ميخائيل نعيمة يعود إلى 1915 أي أكثر من ثلاثين عاما قبل قيام دولة إسرائيل و طرد الفلسطينيين من أراضيهم… و النص يثبت مرة أخرى أننا كعرب ما زلنا نراوح الخطى في نفس المكان يعد أكثر من قرن…
بقلم سوف عبيد
أصدرت الدكتورة فوزية الصفار الزاوق كتابا حول السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث من خلال كتاب ميخائيل نعيمة “سبعون” تناولت فيه بالدراسة و التحليل منهجية الكتاب و أساليبه الفنية و قضاياه الفكرية و الفلسفية بالإضافة إلى مدى الصدق و التذكر و إلى حدود الإخفاء و التصريح فيه. فالكتاب من هذه الناحية يمثل عملا يمتاز بالتبصر و الحصافة و هو فتح آخر في دراسات الترجمة الذاتية كجنس أدبي مستقل. و قد أوردت الدكتورة فوزية الصفار الزاوق في الفصل الأخير من كتابها الصادر في تونس نصا لميخائيل نعيمة تحت عنوان “فلسطين مملكة يهودية” كان في الأصل ضمن كتاب “سبعون” لكنه لم يثبت فيه و انتزع منه و نشر لاحقا في أعماله الكاملة و النص يعود إلي تاريخ 29 نيسان من سنة 1915 و قد نشره ميخائيل نعيمة بصحيفة “مرآة الغرب” في الولايات المتحدة الأمريكية عندما كان لا يتجاوز السادسة و العشرين من عمره و يقوم هذا النص الوثيقة على اعتقاد انكلترا في إمكان تأسيس دولة يهودية على أرض فلسطين لحراسة مصالحها في إفريقيا و أسيا و ينبري ميخائيل نعيمة مرافعاعن الحق بكل قوة حاثا الرأي العام العالمي و العربي و الفلسطيني على التحرك بسرعة و نجاعة قبل فوات الأوان… و نحن عندما نقرا هذا النص من جديد بعد أكثر من 85 سنة من نشره في أمريكا لا بد أن ندرك مدى وعي ميخائيل نعيمة بخطر القضية الفلسطينية من ناحية و نتبين مساهمة الأدباء العرب مند مطلع القرن في الدفاع عن قضايا الأمة العربية من ناحية أخرى.
أكبر جريمة ترتكبها انكلترا بل العالم
في مقال نعيمة نقرأ وثيقة تاريخية نقلها عن جريدة ‘البستاندرد الصبرانية” جاء فيها خاصة “أن اعتقاد الأمة الانكليزية يزداد من يوم إلى يوم، هـﺫا و لا شك فيه أمر مهم للغاية و إذا خرج إلي حيز العمل فسيأتي أبناء امتنا و إخواننا في الدين لا سيما المضطهدين منهم في روسيا بنفع لا يقدر و كيفما كان الأمر فدخول تركيا في الحرب و اقتسام أملاكها الذي لا بد أن يأتي عاجلا أو آجلا كما نوهنا في ما سبق، لا بد أن يحدث تغييرا حيويا في حالة الأمة اليهودية في الأرض المقدسة فليس لنا الآن إلا أن نصلي و نترجي بان هﺬا الانقلاب المنتظر سيضع أساسا جديدا لمستقبل مجيد لنا.”
هذه الفقرة التي أوردها ميخائيل نعيمة تدل بوضوح على الاستشراف الخطير لدي الإستراتيجية الصهيونية في الاستفادة من موازين القوي في العالم و تهيئة التناقضات لصالحها و يسرد ميخائيل نعيمة بعد ﺬلك مواقف الأطراف الأخرى خاصة يهود أوروبا و أمريكا في إنشاء المملكة اليهودية ثم يتعرض إلي موقف المسيحيين و يتهجم على موقف انكلترا بعد ذلك قائلا انه من الغرابة أنها تدعي الدفاع عن الحرية و حقوق الضعيف ثم تقدم علي بيع مليون من الشعب الفلسطيني بأموالهم و أرزاقهم عبيدا لقبضة من شعب آخر غريب عنه جنسا و دينا و لسانا لأن ذلك يوافق مراميها السياسية و ينبه نعيمة إلى هﺬا الخطر عندما يرى أن اليهودي سيشتري الأرض من الفلاح الفلسطيني ثم يملك أعنة التجارة و السياسة فيلعب بالفلاح المسكين الذي لا يقدر على مباراة اليهودي إذ كان في الصناعة أو في الزراعة أو في العلم أو السياسة. و يختم نعيمة مقاله كما يلي : “و الله لتلك أكبر جريمة ترتكبها انكلترا بل العالم كله إذا باعوا فلسطين و سكانها لليهود لمطامع سياسية أو ترهات دينية.و إذا أحبت انكلترا أن تجعل فلسطين مستقلة لغايات دولية فلماﺬا لا تجعلها كﺫلك تحت إدارة أهلها و لا خوف عليها من عصيان اليهود و تمردهم. هـﺬا نص وثيقة يجدر التوقف عنده.
فلسطين مملكة يهودية
”إن اعتقاد الأمة الانكليزية بإمكان تأسيس مملكة يهودية مستقلة في فلسطين تحت حماية انكليزية يزداد من يوم إلي يوم. هﺫا و لا شك أمر مهم للغاية و إذا خرج إلي حيز العمل فسيأتي أبناء امتنا و إخواننا في الدين – لا سيما المضطهدين منهم في روسيا – بنفع لا يقدر… و كيفما كان الأمر فدخول تركيا في الحرب و اقتسام أملاكها الذي لا بد أن يأتي عاجلا أو آجلا كما نوهنا في ما سبق لا بد أن يحدث تغييرا حيويا في حالة الأمة اليهودية في الأرض المقدسة. فليس لنا الآن إلا أن نصلي و نترجى بأن هﺬا الانقلاب المنتظر سيضع أساسا جديدا لمستقبل مجيد لنا”.
هذه فقرة من جريدة “البستاندرد العبرانية” و خذ لك ألف فقرة كهذه الفقرة ظهرت في الصحافة العبرانية و غير العبرانية في جميع أقطار العالم.
في دماغ من ترى هذا الفكر و نما و نضج ثم طار بالبرق من شرق الأرض إلي غربها و من شمالها إلى جنوبها – لا ادري و لا يهمني أن أدري. هذه الحرب قد ملأت الأرض أنبياء و مفسري أحلام، لكن نبي استقلال بني إسرائيل و عودتهم إلى أرض أجدادهم قد وجد لنفسه في الحال ألوفا بل ملايين من الأتباع بين العبرانيين و غيرهم لأن نبوءاته تحرك في بعضهم شعورا دينيا و تأتي الآخرين بمنافع سياسية و اقتصادية.
بعض العبرانيين ينظرون إلى هذا الأمر من جهة دينية فيُسمعون أشعيا و ارميا و حزقيال و دانيال يكلمونهم من وراء حجاب ثلاثة آلاف سنة أو أكثر يبشرونهم “بمسيا” المنتظر الذي سيقود شعب يهوﺬا المختار إلى أرض الميعاد و يجدد صهيون. و أنهم يرون في هذه الويلات التي تصبها السماء علي العالم في هذه الأيام يد الله تسطر على شواطئ الحياة كلمات لا يفهمها سواهم. و معناها “إلي خيامك يا إسرائيل”. و إسرائيل يعد العدد و يسهل الطرق بكل ما وهبه اله إبراهيم و اسحق و يعقوب من قوة الدهاء و ما أعطاه من موهبة جمع المال ليلبي دعوة أنبيائه. و هو يري الآن صهيون ترتفع من بين أشلاء الجنود و خنادق الموت تزينها عظمة الأجيال و يكللها مجد داود و سليمان و تخفرها ملائكة العلي فيخر خاشعا و يمتلئ قلبه أملا و سرورا.
هذا ما يراه و يقوله بعض العبرانيين. فماذا يقول المسيحيون؟
من بلاء المسيحيين و سوء حظ المسيحية انك تجد ألوفا بين أتباع الناصري من الذين ينكرون تعاليمه و ينكرونه إذ فصلت إنجيله عن أسفار موسى وإذا قلت لهم انه جاء ليس ليتمم نبوءة ﺬاك أو حلم هذا بل ليضع خمرا جديدا في وعاء جديد و ليريح المستعين و الثقيلي الأحمال. هؤلاء لا يرون في التوراة سوى حرفها الميت. لذاك يجهدون أنفسهم ليطبقوا كل حادثة جرت أو تجري أو سوف تجري على نبوءة ما من نبوءة من نبوءات أشعيا و إخوانه في الفن. و لو سألتهم رأيهم في الحرب الحاضرة لدلوك على العدد الفلاني من الكتاب الفلاني حيث تجد تفاصيل الحرب كلها بأسماء قوادها و حصونها و عدد جيوشها و معاركها و أسبابها الخ. فهل تعجب إذ ا رأيت هؤلاء القوم قد تمسكوا بكل شرايين قلوبهم و فقرات أدمغتهم بهذا الفكر عن تجديد المملكة الإسرائيلية و يتولي شعورهم الديني و يبرهن لهم عن عظمة الله الذي يعبدونه.
أما بقية اليهود فبينهم من يقولون ”صهيوننا واشنطون”. فيفضلون البقاء حيث هم. لكن أكثرهم يرون في نشر المملكة اليهودية حلا لمشاكلهم السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية. و من يتصور ما لاقاه و ما سيلاقيه اليهودي بين بقية شعوب الأرض من الهزء و الاحتقار و الاضطهاد لا يلومه إذ سعى بكل ما لديه من الوسائط ليعيش في بلاد يكون سلطانها و لا يخجل أن يتجاهر فيها بدينه و جنسه دون أن يعرض نفسه لمقت القوم أو ازدرائهم.
أما الأمم التي يساكنها اليهودي – لا سيما روسيا – فتعده بنيل هذه الأمنية تخلصا منه لا حبا به لأنه ضيف ثقيل في أرضها و على شعبها. و عدا ﺫلك فلا انكلترا على الأخص غاية سياسية ذ كرتها الجرائد غير مرة و هي أن تبقي فلسطين المجاورة لأملاكها الآسوية و الإفريقية تحت سلطتها فعلا إنما في يد شعب مستقل اسما لا خوف عليها منه لأنها تعرفه شعبا تجاريا لا حربيا. و مهما عظمت سلطته المالية تبقي قوته الحربية صفرا بالنسبة لقوتها.
هكذا اتفق أقوياء هذا العالم و مديرو دفة سياسة الأرض، و هكذا سمعنا و سمعت جرائدنا. و هكذا… سكتت جرائدنا و سكتنا. ربما تتم هﺬه النبوءة بعد الحرب و ربما لا تتم. لكن الأمر الذي تم الآن هو أن العالم سيتناقل هذه النبوءة و يستحسنها. و الظاهر أنه يسعى لتحقيقها و نحن صم لا نسمع و بكم لا نتكلم كأن هذا الأمر لا يعنينا على الإطلاق أو كأن هذا الأمر لا يعنينا على الإطلاق أو كأن فلسطين قطعة من بلاد المغول أو جزيرة من جزائر الفيليبين لا جزء من البلاد التي ننتمي إليها. فلا أهلها أهلنا و لا بيت لنا فيها و لا مرقد عنزة.
أفمن خمول بعد هذا الخمول؟ أمن موت بعد هذا الموت؟
رأت بعض ممالك الأرض أن من صالحها أن تجعل فلسطين أرض قفراء لا عمار فيها و لا حياة. وكلما يجب لجعلها مملكة مستقلة أن تضع فيها بضعة آلاف من اليهود و تقيم عليهم ملكا و تقول لهم: “أحرثوا هذه الأرض و تنعموا بأثمارها و تكاثروا كرمل البحر”. لكن في فلسطين مليونا من البشر الذين ولدوا و شبوا فيها و دفنوا أجدادهم و أجداد أجدادهم. هم يدعونها وطنهم و ليس لهم في العالم كله حيث يلقون رؤوسهم سوى في تلك البقعة من ارض الله. فيها رأوا النور و فيها يفارقون الحياة. تحت سمائها يحلمون أحلامهم و فوق تربتها يسيرون بهمومهم و أفراحهم و أشجانهم. أيديهم و أيدي أسلافهم من قبلهم بقرت و تبقر تربتها.عظامهم تغذي نبتها و عرق جباههم يسقي زرعها. فبأي شرع أو دين أو حق يجوز للانكليزي أو سواه أن يأتي بيهودي إلي ساكن فلسطين و يقول له : “أجداد هذا الرجل كانوا يقطنون في هذه البلاد من ألفي سنة. و هكذا فالأرض أرضه لأنه ورثها عن أجداده. أما أنت ففتش لك عن أرض غير هذه الأرض فقد تعديت على حقوق هذا الإنسان تعديا”- فهل قطن أجداد الانكليزي في كندا أو في استراليا أو الترنسفال أو مصر أو الهند أو غيرها؟ و من أوحى له بحق الوراثة في تلك البلدان؟
أليس من الغرابة أن انكلترا التي تدعي أنها جردت سيفها في هذه الحرب دفاعا عن الحرية و حقوق الضعيف تقدم الآن فترتكب إثما كهذا الإثم بأن تبيع مليونا من الشعب بأموالهم و أرزاقهم عبيدا لقبضة من شعب آخر غريب عنه جنسا و لسانا لأن ذلك يوافق مراميها السياسية أو لاعتقادها بأن لليهودي حقا في فلسطين ورثه عن أجداده؟ و هذا في الحقيقة ما يحل بنا إذا تمكنت انكلترا من الجري بهذه الخطة- اليهودي سيشتري الأرض من الفلاح الفلسطيني ثم يملك أعنة التجارة و السياسة و هناك يلعب بالفلاح المسكين على هواه. و ذلك شر من العبودية. و هل فلاح فلسطين قادر على مباراة اليهودي إذ كان في الصناعة أو في الزراعة أو في العلم أو السياسة؟ و الله لتلك أكبر جريمة ترتكبها انكلترا بل العالم كله إذا باعوا فلسطين و سكانها لليهود لمطامح سياسية أو ترهات دينية. و إذا أحبت انكلترا أن تجعل فلسطين مستقلة لغايات دولية فلماذا لا تجعلها كذلك تحت إدارة أهلها و لا خوف عليها من سطوة الفلاح الفلسطيني أكثر مما عليها من عصيان اليهود و تمردهم.
أقول ذلك ثم أسال نفسي : ”و لماذا نلوم انكلترا إذا شاءت أن تبيع فلسطين و هي للآن لم تسمع كلمة شكوى أو تذمر من الشعب الذي يدعو فلسطين وطنه و بيته؟”.
نعم. و لماذا نلوم انكلترا؟
هل من أخ فلسطيني يجيبني على هذا السؤال؟ (انتهى نص نعيمة).
و بعد: لكأن قلم صاحب المقال لم يجف بعد… فهل ما زلنا نراوح الخطى في نفس المكان؟
شارك رأيك