لم يُخفِ التاريخ أنّ الصهاينة أتيحت لهم فرص عديدة للتوصل إلى تسوية نهائية بعد حرب 67 وفق مبدأ الأرض مقابل السلام، وإبان المفاوضات المصرية الإسرائيلية في كامب ديفيد سنة 1978، ومؤتمر مدريد سنة 1991 أو مفاوضات كامب ديفيد الثانية مع عرفات وباراك سنة 2000، أو عقب طرح المبادرة العربية في قمة بيروت سنة 2002، لكن إسرائيل أهدرتها جميعا.
بقلم العقيد محسن بن عيسى
ليس ثمة فرص واقعية للتوصل إلى سلام حقيقي بين الكيان الإسرائيلي ودولة فلسطين، فطوال تاريخ الصهيونية كان قادتها منشغلين بمسألة كيفية التخلص من الشعب الفلسطيني.
إسرائيل: من بن غريون إلى نتنياهو
لا شك أن إسرائيل سواء حَكَمها بن غريون أو غولدا مئير أو رابين أو نتنياهو، تبقى دولة صهيونية تلتزم بأيديولوجيا استيطانية، وتؤسس الحق للمهاجرين من الغرب للانتقال إلى فلسطين والاستيلاء عليها وهي لا تختلف بذلك عن استيطان البيض في جنوب أفريقيا. لذلك كانت وما تزال تصر على ان لها مرجعية توراتية وحقوق مطلقة لضمّ كل ما تعتقده أرضا تاريخية “مَوعودة”. ويشكّل تغييب وتجاهل وإلغاء الوجود الفلسطيني وإنكار حقوقه موقفا وجزءًا من الادراك الإسرائيلي وعقيدته.
كان الهدف الرئيسي للحركة الصهيونية هو إنشاء وطن قومي لليهود ودولة تحلّ عقدة الاضطهاد والشتات لديها. لقد اتجهت الآراء في البداية إلى إقامة دولة في أوغندة أو الأرجنتين، وأصر البعض على أن تكون الدولة المبتغاة في فلسطين.
اليوم وبعد أن استعملت كل الوسائل المعلنة والسرية، المشروعة وغير المشروعة، لم يستطع اليهود توحيد صفوفهم كشعب واحد، وأن غالبية اليهود في العالم ما زالت خارج إسرائيل. المظلمة الكبرى هي تحميل الفلسطينين تبعات ما عرفه اليهود من اضطهاد عبر العصور في أوروبا الشرقية أو في ألمانيا النازية. والمأساة اليوم هو ظهور الجنون الإسرائيلي من جديد بغزّة، ليقتل و[يهدم البيوت والمؤسات المدنية ومعها أوهام السلام التي حاول الكيان بنائها طوال العقود الماضية.
تبدو فكرة ترحيل السكان لئيمة وعديمة الرحمة، وليس غريبا عن الجيش الإسرائيلي تقديم الذرائع للتعبير عن رغبته في أن ينقل 1.1 مليون فلسطيني من شمالي غزة إلى جنوب القطاع، فقد سبق للعدوان أن هجّر سنة 1948 أكثر من 800 ألف فلسطيني عربي إلى المناطق المجاورة في الأردن، وسوريا ولبنان وغيرها. هذا فضلا عما نتج عن العدوان الإسرائيلي سنة 1967 من تشريد قرابة نصف مليون لاجئ فلسطيني بعيدا عن أراضيهم وديارهم إلى المناطق المجاورة. لقد شكلت هذه الممارسات دوما جزءًا أساسيا من الرؤية الصهيونية لدولة خاصة بالشعب اليهودي.
يستحضر المؤرخ اليهودي الشهير بيني موريس صورة دولة إسرائيل ويستشعر مسؤوليتها في الجرائم التاريخية. ويشرح أنه يوجد اليوم من العرب أكثر من اليهود بين البحر المتوسط والأردن. وأنّ إسرائيل لا تزال تدعو نفسها دولة يهودية لكن حكمها لشعب محتل بلا حقوق ليس وضعا يمكن أن يدوم في القرن الحادي والعشرين، في العالم الحديث، وما إن تصبح لهم حقوق فلن تبقى دولة يهودية. وعن الأفق الزمني لهذا الانهيار يقول أن العرب يرون أن هناك خمسة أو ستة أو سبعة ملايين يهودي يحيط بهم مئات الملايين من العرب. وليس ثمة ما يدعوهم للاستسلام لأن الدولة اليهودية لا يمكن أن تدوم.
في نفس السياق، وبحسب الباحث المصري عبد الوهاب المسيري فإسرائيل هي “دولة وظيفية” بمعنى أنّ القوى الاستعمارية اصطنعتها وأنشأتها للقيام بوظائف ومهام تترفع عن القيام بها مباشرة، وهي مشروع استعماري لا علاقة له باليهودية. ويضيف أنّ هذه الدولة ستواصل التقهقر وأن المقاومة الفلسطينية ستُنهك إسرائيل إلى حدّ – حتى وإن لم تتمكن من هزيمتها – مما سيجعلها مرشّحة للانهيار خلال بضعة عقود لأن “الدورات التاريخية أصبحت الآن أكثر سرعة مما مضى”.
المسار التاريخي لحلّ الدولتين
لقد برزت فكرة حلّ الدولتين قبل إنشاء إسرائيل، خلال فترة الانتداب البريطاني لتلبية تطلعات السكان المحليين العرب والمهاجرين اليهود، وتقسيم فلسطين الانتدابية بين دولة يهودية ودولة عربية.
كانت نقطة البداية مع انطلاق الثورة العربية الكبرى (1936-1939)، حيث اقترحت لندن خطة “بيل” (1937). لكن المقترح قوبل بالرفض من قبل اليهود والعرب على حدّ سواء. تمّ اقتراح خطة ثانية سنة 1938، حافظت على نفس التقسيم الذي جاءت به الخطة السابقة مع بعض الاستثناءات. ولكن الطرفان رفضا الاقتراح الجديد.
في نفس الوقت تم قمع الثورة العربية الكبرى بشدة من قبل البريطانيين وقلّصت بريطانيا الهجرة اليهودية بداية من 1939. عجزت بريطانيا خلال 10 سنوات عن إدارة هذه القضية وأحالت ملف الدولتين إلى الأمم المتحدة التي صوتت عل خطة تقسيم جديدة سنة 1947 كانت ملائمة أكثر للسكان اليهود، وقد رفضها الفلسطينيون.
سجلت إسرائيل بعد الانهزام العربي خلال حرب 1948-1949، أول ضمّ لأراضي عربية في الشمال والوسط وحول قطاع غزة. وبعد 20 سنة انتهت حرب الأيام الستة (1967) بانتصار خاطف لها مكّنها من الاستيلاء على الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية وقطاع غزة والجولان في سوريا وسيناء في مصر.
ارتكزت المفاوضات في العقود الاخيرة على حل الدولتين وعلى ما يسمى حدود 1967 والتي تمثل تقريبا الحدود الفاصلة التي كانت بين الشعبين قبل حرب الأيام الستة. فقد برزت في التسعينات إمكانية التفاوض حول حلّ الدولتين. وبدأت حكومة الليكود بعد أربع سنوات من بدء الانتفاضة الأولى (1987-1993)، برئاسة إسحاق شامير محادثات مع منظمة التحرير الفلسطينية خلال مؤتمر مدريد (1991). وبعد انتخابه كرئيس للحكومة قاد إسحاق رابين سلسلة من المفاوضات سنة 1993 في أوسلو بالنرويج مع رئيس المنظمة الفلسطينية ياسر عرفات. وبموجب شروط المفاوضات، اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية للمرة الأولى وقبلت السلام مع الدولة اليهودية وفك الاشتباك مع القوات الإسرائيلية إلى حدود 1967. في المقابل اعترفت الحكومة الإسرائيلية بمنظمة تحرير كممثلة للشعب الفلسطيني.
توقف هذا المسار باغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين سنة 1995 ووصول بنيامين نتنياهو للحكم (1996-1999). تجدّدت المفاوضات على أساس حلّ الدولتين في كامب دافيد2 (2000) وطابا (2001). ولئن ساهمت إلى حدّ كبير في تطوير التفكير حول هذا الحل، إلا أنها منيت بالفشل تماما مثل مبادرة جينيف (2003)، أو مؤتمر أنابوليس (2007).
يعتبر البعض من المحللين أن سيناريو حل الدولتين هو الأقل إشكاليات لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وبطبيعة الحال يدفع الطرفين إلى تقديم تنازلات كما يجب التعامل معه بحذر. في هذا السياق تناولت صفقة القرن التي أوضحها ترامب سنة 2020 اقتراحا بإنشاء دولة فلسطينية وتعمقت في حل الدولتين. لكن هذه الخطة رُفضت من قبل الفلسطينيين وجزء من المجتمع الدولي. الأخطر من هذا الفشل هو “حلّ الدولة الواحدة” البديل المطروح والذي تبدو إمكانية نجاحه أكثر استحالة من إمكانية نجاح “حل الدولتين”، فهو هروب الى الأمام يوغل في أوهام التسوية السياسية ومن ذلك “السلام الاقتصادي” و” السلام مقابل الأمن” بدل مبدأ “السلام مقابل الأرض”.
لقد تجاوزت محاولات السلام مرحلة الذرائعية ويجب أن تصل إلى مرحلة الحلول النهائية. والحسم والحل مرتبطان بصياغة رؤية جديدة للعالم تتخطى الهيمنة الأمريكية والصهيونية، وضعف الوطن العربي والتأثير الغربي عليه.
ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك