يبدو أن منظومة الفساد المتجذرة منذ عقود في تونس قد تحولت إلى ورم خبيث استعصى على الجميع حلها و مواجهتها و اقتلاعها من الجذور حتى يتعافى الوطن و تعود الروح للاقتصاد الوطني.
بقلم أحمد الحباسي
حين تشاهد الرئيس قيس سعيد في زياراته الأخيرة لبعض مناطق الجمهورية متأبطا بعض الملفات المتعلقة بالفساد الذي تحول إلى منظومة كاملة تحميها بعض أجهزة السلطة نفسها بما فيها بعض رؤساء حكومات سابقين و بعض نواب الشعب و بطبيعة الحال الكثير من المهربين و المختلسين إضافة إلى عدد من رجال الأعمال الذين يستغلون الظروف السيئة التي نتجت عن التدافع الاجتماعي الذي وصفه بعض الشواذ بالثورة لا بدّ أن تصل إلى قناعة تامة بأن منظومة الفساد قد تحولت إلى ورم خبيث استعصى على الجميع حلها و مواجهتها و اقتلاعها من الجذور حتى يتعافى الوطن و تعود الروح للاقتصاد الوطني.
منظومة الفساد ليست وليدة مرحلة معينة بل هي نتاج لسنوات من تراكم اللامبالاة و الوهن في مفاصل الدولة و انهيار قيم المجتمع و بحث الكثيرين عن الربح السريع مهما كان الثمن و الوسائل الوضيعة المستعملة و غياب الرقابة و المحاسبة و العقاب الرادع.
هناك اليوم حقيقة ساطعة و مؤلمة تؤكد أنه بعد الاقتصاد الموازي و الأمن الموازي و القضاء الموازي جاء الدور لنتحدث عن الفساد الموازي و بارونات الفساد الموازي.
المضاربة و المتاجرة و تبييض الأموال
أظهرت عديد التقارير و التسريبات و التصريحات الإعلامية الجديّة أن بعضا من رجال الأعمال و كبار السياسيين في تونس يهربون الأموال التي تحصلوا عليه بطرق شرعية و غير شرعية و أحيانا بالتواطىء مع كبار المسئولين الفاسدين إلى ما يسمى اصطلاحا بالجنات الضريبية في سويسرا و بنما و ليشنشتاين و غيرها من البلدان التي تحولت إلى ملاذ آمن لكل الأموال المشبوهة و المنهوبة.
تؤكد المعلومات أن بنك كريدى سويس -على سبيل المثال- قد فتح أبواب خزائنه المصفحة لقبول ملايين الدولارات المتأتية من رجال أعمال و قيادات سياسية و شخصيات تونسية نافذة و أن أحداث ما يسمى نفاقا بالثورة التونسية أو ثورة الياسمين قد جاءت في موعدها لتمكن هؤلاء الفاسدين من فرصة العمر لنهب خزائن الدولة و استغلال الظرف للمضاربة و المتاجرة و تبييض الأموال المتأتية من تجارة السلاح و الرقيق و بيع الأعضاء و طبعا بيع المؤن الفاسدة و الاحتكار.
نحن نتذكر طبعا فضيحة وثائق “بنما بايبارس” و فضيحة البنك السويسري HSBC أو ما سمى بفضيحة سويسليكس التى تم الكشف فيها عن وجود ما يزيد عن 700 حسابا بنكيا راجعة إلى ما يقارب عن 300 “حريف” بين أشخاص طبيعيين و شركات لكبار رجال الأعمال و السياسيين الذين تعلقت بهم تهم و شبهات فساد و نهب أموال عمومية و تهرب ضريبي و تبييض أموال مشبوهة إلا أنهم بقوا إلى اليوم خارج دائرة المحاسبة رغم كل حملات الرئيس قيس سعيد الخطابية الفاقدة للفعل و مساءلة قضاء التعليمات المتهالك.
شركات مفلسة بفعل فاعل
بطبيعة الحال هناك مملكة فساد أخرى اسمها مجمع الكرامة القابضة التي عهدت لها حركة النهضة المتآمرة حين كانت في الحكم بالتصرف حصريا في الشركات و العقارات والأسهم و الأموال التي استولت عليها عائلة الرئيس الراحل زين العابدين بن على دون وجه حق. هذه المؤسسة تمثل إخطبوط فساد متشعب الأطوار و المخالب و الغايات تعذر على كل الذين حاولوا فك شفرته و كشف ما حصل بمن فيهم دائرة المحاسبات و هؤلاء “المراقبين” الذين يستعين بهم الرئيس قيس سعيد لفهم كيفية التلاعب في المال العام.
لقد مثل إحداث و تكوين شركة “ستيل” لتجميع و تصنيع الحليب و مشتقاته أحد مفاخر البنية الاقتصادية التونسية لكن و مع حلول الثورة المزعومة تمّ التلاعب بمصير هذه الشركة بغاية تفليسها و إنهاكها و بيع ممتلكاتها و أصولها لبعض الخواص الذين لم يتحفظ الرئيس قيس سعيد منذ يومين بكونه سيفتح بحثا قضائيا ضدهم و ضد كل المسؤولين الكبار في حكومات ما بعد “الثورة” الذين ساهموا باسم الخوصصة المزيفة في أحد أكبر عمليات السطو على أحد أهم الشركات التونسية التي تحولت إلى مجرد أطلال.
لا يمكن الحديث عن الفساد دون التطرق إلى وضعية عدة معامل و شركات عمومية أخرى مثل معمل الفولاذ و الوكالة التونسية للتبغ و الوقيد و شركة نقل تونس و شركة فسفاط قفصة و الشركة القومية للسكك الحديدية و الخطوط التونسية و غيرها من الشركات المفلسة بفعل فاعل.
الغريب في وضعية هذه الشركات أن جميعها تتصرف خارج الأطر القانونية و الطبيعية و قد يكون ذلك من الأسباب الرئيسية لإفلاسها المعلن و تبخّر مداخيلها في الطبيعة تماما كما يقع فى مثلث برمودا الأمر الذي يدعو للتساؤل حول الأسباب الجدية و الرئيسية التي جعلت كل الحكومات المتعاقبة لا تجرؤ على فتح الملفات و إعلان وقت المحاسبة.
ما بين تجارة السلاح و تجارة الرقيق الأبيض و بيع المخدرات و ترويجها علاقة حميمية لا تنقطع و لأن تجويع الشعوب هو أحد الطرق السهلة السالكة لتجميع الثروات الهائلة فقد لاحظنا كيف يتحكم الفاسدون و المحتكرون في السوق التونسية و يتطاولون على الدولة بكل وقاحة و جرأة.
هذه المافيا ليست معزولة عن سياق الواقع التونسي الذي خلق لوبيات و مسؤولين و أمنيين و سياسيين مهمتهم الوحيدة هي توفير الحصانة السياسية و الأمنية و القضائية حتى لا تتم متابعتهم أو محاكمتهم و هذه الوضعية معلومة للسيد رئيس الدولة و بالأسماء كما يقول لكن من الواضح أن المافيا قد تحولت إلى دولة و الدولة تحولت إلى شاهد ما شافش حاجة. من المتضرر من مافيا الفساد و الإفساد ؟ بطبيعة الحال المواطن المسحوق هو المتضرر دائما في كل الأحوال خاصة أن الأبحاث التي تناولت بعض القضايا قد كشفت أن حاميها حراميها و أن اللي يسرق يغلب اللى يحاحي و أن حوت يأكل حوت و قليل الجهد يموت. و سلملى على ثورة الجياع.
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك