لعل الحكم الأخير بالسجن لمدة ثلاث سنوات على الشيخ راشد الغنوشي جاء ليؤكد اضمحلال الحركة الإسلامية التونسية و عدم قدرة قيادتها على انتشالها من السقوط الأخير و لو بافتعال ما أسموه بالمراجعات و ما هي بمراجعات بل مخالات جديدة تهدف إلى تعويم السمكة و إلهاء الرأي العام و مغالطته مثلما دأبت عليه الحركة دوما.
بقلم أحمد الحباسي
حين استطاعت النائبة الأستاذة عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر رغم كل ما حدث لها داخل مجلس نواب الشعب و خارجه إسقاط حاجز الخوف و الترهيب الذي فرضته حركة النهضة بقيادة الشيخ راشد الغنوشي بخطاب التكفير و التشويه و التضليل، حين اضطر الشيخ المتهم بالجرائم الإرهابية التي حصلت منذ نشأة هذا التنظيم المشبوه و بالذات بعد ما يسمى بثورة الياسمين إلى الهروب إلى أحد المكاتب الخلفية الفرعية لمجلس النواب تجنبا لاتهامات غريمته التى طالبت برحيله و محاسبته، حينها أدرك الكثيرون أن أيام حكم حركة النهضة و حكم شيخها العجوز قد شارفت على النهاية و بات مصير هذه الحركة المشبوهة في مهب رياح التقلبات السياسية التونسية.
لذلك لا يمكن بحال من الأحوال لشخص مثل السيد الرئيس قيس سعيّد الذي كان صديقا لكثير من قيادات هذه الحركة أن يسعى للإيحاء بكون قراراته ليلة 25 جويلية 2021 أو ما سماه النهضويون “بالانقلاب على الدستور” هي نتاج معاداته لمخططات الحركة و رغبة في محاسبة قيادتها.
لم يكن عام 2021 هو العام الذي كتبت فيه شهادة وفاة حركة النهضة و انتهاء تربع مرشدها على سدة مجلس نواب الشعب فقط بل أن الوقائع ناطقة بأن تلك الوفاة قد بدأت منذ أن دخلت كتلة الحزب الحر الدستوري للمجلس و لمباشرة النضال المباشر و الفاعل داخله و خارجه و منذ ذلك التاريخ توالت خيبات الشيخ و حركته و انكساراته و جعلته يحصد بعضا من نتائج جرائمه التي تسببت في شلل البلاد و انقسام المجتمع و تعميم حالة الإحباط.
لقد كان من الطبيعي أن يجد الشيخ راشد الغنوشي نفسه واقفا أمام أبواب مجلس النواب المغلقة في وجهه مستجديا الدخول في صورة معبّرة عن حالة السقوط المدوي الذي تسببت فيه سياسته و مخططاته الإرهابية الجهنمية لحركته العميلة و كان من الطبيعي أيضا أن يسارع الكثيرون إلى القفز خارج الحركة تعبيرا عن السخط تجاه المرشد و خوفا من كل ما يمكن أن يتبع قرارات ليلة 25 جويلية من إجراءات إيقاف . لعل ما لفت المتابعين هو توافق كثير من القيادات من بينهم الأستاذ سمير ديلو على أن الشيخ العجوز قد فقد الصواب و يعيش ما سماه ” بحالة إنكار ” غير مسبوقة .
أن يخرج علينا منذ فترة كبار قيادات حركة النهضة بعد أن دخل مرشدهم السجن و من بينهم السادة العجمى الوريمي أو عبد اللطيف المكي معلنين أنه سيتم تغيير اسم الحركة في إطار ما سمّوه نفاقا و بهتانا القيام ببعض “المراجعات” التي تتماشى مع المرحلة الحالية و متطلباتها فهذا يطرح كثيرا من الأسئلة و يرى فيه البعض محاولة زئبقية للإيحاء بانسلاخ الحركة عن جماعة الإخوان المصرية و خوفا واضحا من قيام الرئيس قيس سعيد في إطار توفير كل الظروف الإيجابية اللازمة لنجاحه في الانتخابات الرئاسية القادمة بحظر نشاط الحزب أو حلّه بتوظيف القضاء كما هو حاصل مع رئيسة الحزب الدستوري الحرّ المعتقلة سياسيا كما تؤكده لجنة الدفاع و هيئة الحزب في كل ندواتها الإعلامية.
إثارة فكرة “المراجعة” تعكس بطبيعة الحال حالة منقطعة النظير من الحيرة و الارتباك و الخوف لدى قيادات حركة النهضة لكنها تثير حولها تساؤلات عديدة تتعلق بتوقيتها و ملامحها و مآلها.
حتى الآن ما كشف من مراجعات لم يتجاوز ربما محاكمة شخصية فردية للسلوك السياسي و القيادي للشيخ راشد الغنوشي و لم تطل المراجعات جملة الأفكار السياسية المتطرفة و المشبوهة و المحرّفة للدين التي تمثل أدبيات الحركة و مقولاتها الرئيسية و أهدافها و أدبياتها السياسية.
المعلوم أن مراجعة عامة لأدبيات حركة الإخوان بهذا الحجم و الشكل مرهونة بأكثر من عامل و ظرف و جهة و الواضح الآن على الأقل أن نية البعض حتى لو كانت صادقة قد بقيت مجرد أفكار و تصورات و تم قبرها في المهد سواء من طرف جماعة الإخوان المصرية أو من بعض الجهات الداعمة و الممولة مثل قطر و تركيا التي ترى فيها استسلاما مهينا بعد أن كانت تبشر المنتسبين للحركة بكونها ستظل تحكم لمدة عشريات قادمة دون منازع.
على الجانب الآخر لا يظن أحد أن الرئيس قيس سعيد الذي ينبذ فكرة الأحزاب و المعارضة و التداول على السلطة من الأساس مستعد بالقبول برجوع حركة النهضة مهما تحولت جينيا أو فكريا أو سياسيا و حتى لو قامت بكل المراجعات المطلوبة لأنه يرى في ذلك خطرا محدقا بمستقبله السياسي و لا ينظر للمراجعة كشكل من الاعتذار التي تستدعي مصالحة وطنية تجبّ ما قبلها من جرائم إرهابية.
في الحقيقة هناك من هو مع هذه المراجعات التي تؤدى إلى تصحيح الأفكار و الاعتراف بالخطأ لكن من الثابت و بالتجربة فإن حركة النهضة و قياداتها غير قادرين على تحقيق المراجعات المطلوبة و لا يمكن أن يأخذوا قرارا حاسما لا رجعة فيه في هذا الشأن لأنهم وببساطة غير مؤهلين بعد أن باتت أفكارهم الفاسدة جزء متأصّلا مما تؤمن به قيادات الجماعة في مصر خاصة أن القيادات المؤسسة مثل حسن البنا و سيد قطب وعمر التلمساني و يوسف القرضاوي قد غلفوا هذه الأفكار و حصنوها حتى لا يتم التراجع فيها.
من الواضح أن حركة الإخوان في تونس ترفض أن تشمل المراجعة فكر الجماعة و مشروعها في الحكم و مواجهة الحاكم و الدعوة لإسقاطه بالحديد و النار كما ترفض وجود رقابة مالية على أنشطتها و حساباتها و مصادر تمويلها وهي مصرة على أن تكون تيارا اجتماعيا غامضا يجمع بين السياسي و الاجتماعي و الدعوي كل ذلك بالاشتراك في تنفيذ مؤامرات خارجية تستهدف استقرار تونس و مناعتها و منوال تنميتها وتعليمها ووسطية توجهها نحو كل المشارب الإيديولوجية في العالم.
لا يمكن لهؤلاء الذين يزعمون نفاقا أنهم مستعدون للمراجعة أن يتجاوزوا عقدة التمويل الأجنبي المشبوه، الخليجي بالأساس، لأن السؤال المطروح هل تقبل قطر مثلا بتمويل حزب مدني لا يخدم مصالحها التآمـرية في تونس و من سيقوم بتمويل المدارس “القرآنية” و الجمعيات “الخيرية” و بعض المؤسسات المشبوهة الأخرى المتخفية بغطاء العمل الخيري على اعتبار أن هذه الدكاكين المذكورة هي الرافد الانتخابي للحركة و مصدر وجود قوتها في الشارع و المنفذ لكل مؤامرتها و دسائسها و إجرامها.
كيف يمكن القيام بمراجعات لا تشمل كشف أسرار التمويلات التي أودعها رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي و عائلته في حساباتهم الخاصة و كيف يمكن أن تعايش قيادات متنافرة تحمل لبعضها أحقادا كثيرة نتيجة تلاعب شيخ الحركة بعقولهم طيلة أكثر من أربعين سنة؟
كلها أسئلة تؤكد استحالة المراجعة و استمرار الحال على ما هو عليه و لذلك يأتي الحكم الأخير بالسجن لمدة ثلاثة سنوات على الشيخ راشد الغنوشي ليؤكد اضمحلال الحركة و عدم قدرة قيادتها على انتشالها من السقوط الأخير.
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك