يعتبر ملف استبدال العملة الأجنبية خارج الأطر القانونية من أكبر ملفات الفساد في تونس. هذه حقيقة مرّة وواقع تعيشه عدة مناطق حدودية و بعض الأماكن الأخرى بما فيها قلب العاصمة و ربما على بعد أمتار من مقر وزارة الداخلية نفسها.
بقلم أحمد الحباسي
الحقيقة المرة الثانية أن انتشار هؤلاء الصرفيين المتجولين و بيدهم كميات من العملة المختلفة لاستبدالها بأخرى حسب الطلب و في ظرف اقتصادي صعب تعيشه البلاد لا بدّ أن تكون وراءه مافيا أخطبوطية نافذة و خطيرة و قيادات هذه المافيا لا يمكن أن تكون أسماؤها و مقراتها و مكان نشاطها غير معلومة لأجهزة الأمن.
الحقيقة المرة الثالثة تؤكد أنه بالمكان بقليل من الإرادة السياسية تقنين هذا النشاط الخطير وجعله مصدرا كبيرا لإدخال العملة الصعبة و تشغيل العاطلين و توفير السيولة اللازمة لتنفيذ مشاريع الحكومة.
الحقيقة المرة الأخيرة تكشف أن ملف استبدال العملة بطريقة غير قانونية لن يتم فتحه و اتخاذ أي إجراء إيجابي يكون في مصلحة كل الأطراف و يقضى على هذه الظاهرة الخطيرة و الأسباب تبقى مجهولة.
لن نذيع سرّا حين نجزم بفساد مصدر العملة الصعبة المتداولة بشكل غير قانوني و من المؤكد أن هذه المقادير الخيالية من الأموال هي نتاج تجارة موازية مثل سرقة السيارات الفاخرة و تفكيكها أو تجارة بيع الأعضاء أو توريد السلاح و الأدوية الممنوعة و المخدرات و تهريب المواشي و كل ما له علاقة بالتجارة في الممنوع.
سوق تبديل عملة شبه “شرعي”
أيضا لا يمكن أن نتخيل أن استبدال العملة هي مجرد عملية و تصرف فردي فالمؤكد أن هناك مافيا تدير كامل تفرعات هذه “التجارة” الموازية و هذه المافيا تتكون من قيادات فى تونس و الجزائر و ليبيا و تركيا و قطر على سبيل الذكر لا الحصر معروفة بعلاقتها و ممارستها لهذه التجارة ومن بعض العناصر الأمنية الفاسدة و من بعض “رجال الأعمال” المستكرشين و طبعا بعض المهربين وغلاة الفكر المتطرف الذين يخدمهم هذا النشاط في تبييض أموال بيع الأسلحة المهربة من ليبيا و بعض الدول الإفريقية المجاورة.
هذه المافيا الدولية هي التى تثير حفيظة الحكومة التونسية لتجعلها فلا تتخذ القرارات الرادعة ولا تحاول تفكيك هذا الأخطبوط أو بعث سوق تبديل عملة “شرعي”.
من المؤكد أن قضاة ورجال اللجنة التونسية للتحاليل المالية المحدثة بمقتضى القانون عدد 75 لسنة 2003 قد قادوا عدة عمليات تدقيق بمعية عدة جهات إدارية و أمنية و لعل المثير في هذا الصدد هو التعتيم الكبير الذي رافق هذه التحريات و النتائج التي أفضت إليها لكن حتى نفهم أكثر نشير إلى أن هذه الأبحاث و التحريات و عمليات التصنت و المتابعة كانت تهدف إلى تقييم عمل المنظومة التونسية التي تم بعثها لتعقب غسيل الأموال و تمويل الإرهاب و سير نشاط تهريب العملة الصعبة على المنافذ الحدودية و إعداد كشف بالأسماء و العناوين لكل من يشارك بأي شكل من الأشكال في هذا النشاط الإجرامي الواسع.
بطبيعة الحال من الواضح أن التحريات قد كشفت وجوه قيادات في البلاد و علاقات متشابكة بين عالم السياسة و عالم المال و المخابرات والإرهاب، ما كشفته الأبحاث و ما تم التعتيم عليه يؤكد على وجود فضيحة كبرى و هو ما دفع رئيس الدولة نفسه إلى التعبير عن انزعاجه أثناء زيارة غير معلنة لمقر البنك المركزي يوم 8 سبتمبر 2023.
ضمان شفافية التعاملات
من الأكيد أنه و رغم إصدار البنك المركزي التونسي سنة 2018 للمنشور المتعلق بضبط القواعد التطبيقية لمزاولة نشاط الصرف اليدوي وإسناده لرخص فتح مكاتب صرف بعدة مناطق من الجمهورية فإن هناك جبهة رفض صلب البنوك التونسية خشية أن تتحول هذه المكاتب إلى مؤسسات لتبييض الأموال و خدمة أجندات إرهابية.
هذا التخوف مفتعل و غير صحيح لأنه بالإمكان لو تحققت إرادة الدولة وضع عدة لوائح قانونية بإمكانها ضمان شفافية التعاملات لكن هناك جهات تضغط لترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام نشاط تبديل العملة و أمام تدفق المال الفاسد الذي يمول الإرهاب و مناخ الفوضى في كثير من المناسبات.
من المعلوم أنه قد وقع منذ فترة إدراج تونس ضمن القائمات السوداء و التصنيفات الدولية المتعلقة بتبييض الأموال بعد أن تحولت إلى ملاذ آمن لعديد المهربين و غاسلي الأموال الملوثة و منظومتها المالية ذات ثقوب تتسرب من خلالها مليارات الأموال المهربة و المجهولة المصدر على حدّ سواء و لذلك يمكن القول أن العزري قد أصبح أكبر من سيّده و لا غرابة أن يقرأ البعض صلاة الغائب على روح الدولة التونسية.
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك