ما كتبته اليوم الاربعاء على حسابها الخاص بالفايسبوك الأستاذة المحامية دليلة مصدق هو عبارة عن قصة حزينة مستوحاة من واقع أليم ينهش الأحاسيس في كل لحظة حتى وقت النوم… لتشد القارئ الى حد النهاية.
نعيد النشر:
“حديث على المرناقية
في سجن المرناقية يستوي المجرم والبرئ
المتهم والمحكوم
السجان والجلاد…
في سجن المرناقية تتغير القواعد والنواميس وتصبح المؤازرة والتضامن هم القاعدة…
رأيت في سجن المرناقية الموحش ، في صفوف القفة والزيارة، بين الالاف العائلات والاعوان، رأيت اعين تنظر اليا بعطف و باستفهام ! ولكن دون احكام مسبقة ودون سوء ظنا او عداء … فقط تسألك بدون كلام “شكون عندك مشدود” فتجبها قبل ان يأتي السؤال…
في سجن المرناقية يختفي الحقد والكره في صفوف العائلات وتصبح المعاناة والالم واللوعة على فراق الاحبة هو القاسم المشترك…
لايمكنك ان تمر بجانبك عجوز تحمل قفافها بجهد يتجاوز طاقتها ولا تتوقف وتحمل معها وذن القفة لان القاعدة هو ان تفعل ذلك دون سؤال …
في سجن المرناقية لا يمكنك ان تتجاهل النظارات التائهة لزوجة تزور زوجها لاول مرة لانه حديث الايداع بالسجن ، ولم تفقه بعد كمية الممنوعات والمحرمات، فتخطىء حتما في اول الايام … تتطلع على قفتها دون اذنها وتنصحها بتغيير الكميون (الصندوق البلاستيكي الشفاف اين نحمل الاكل والا يرفض العون قبوله )…ثم تاخذها من يدها الى شباك حديدي صغير يطل على عطار السجن كى تشتري كميون او اثنين ،تكب فيهما ، وهى تدعوا لك ولقريبك بالفرج وزوال القهر والالام ، ما طهته من فجرها ليصل الى زوجها او ابنها او اخاها دافىء …فيوم القفة هو اليوم الوحيد الذي يتناول فيه المساجين غذاءا دافئا اما بقية الايام فالغذاء يؤكل من ثلاجته الا من رحمه سجانه بتجاهله للفتيلة ، فيشعلها خفية ليسخن اكله في شقف باكو حليب.
الفتيلة وحدها يمكن ان يكتب حولها كتاب…
النساء والزوجات والاخوات والبنات هن الاغلبية في سجن المرناقية …فصفوف النساء اطول بكثير من تلك المخصصة للرجال … وكأن التعب والشقاء من نصيب الانثى في كل الاماكن والازمان.
علمتني صفوف المرناقية ان قسوة الحياة تجعل من الانسان اكثر ادمية واكثر تسامح واكثر قبول للاخر خاصة اذا كان يتقاسم معه نفس المعاناة.
في المرناقية تتساوى الطبقات وتتساوى الافعال فالكل برئ في المطلق في عيون عائلته…وحتى وان اجرم فأعذاره كثيرة، وكلما تسمع قصة جديدة تفهم ان وراء كل مجرم ظروف اجرمت في حقه اكثر بمرات….
علمتني المرناقية ان السجان ليس بشيطان فهو موظف مثله مثل الالاف يطيع التعليمات ويحاول تجنب المشاكل والتعقيدات ….
ومع الوقت تفهم ان ذلك السجان يخفي وراءه انسان له عواطف واحاسيس وقناعات وتنتهي بكم المعرفة الى ان يصبح سجان شقيقك صديق لك …يعرف عنك وعن عائلتك الكثير وتعرف عنه وعن عائلته اشياء…
المرناقية عالم قاسي وحنون في نفس الوقت …
عالم بدون اقنعة … لا تنتظر منه شيئ ولا يطلب منك شيئ…
لكل حدوده واحترام الحدود فيه سلام للجميع وراحة بال …
في المرناقية يختفي الترهدين والتملق ولغة العفة والنقاوة المغشوشة والنفاق …
فالسجين مجرم مهما كانت الاسباب … والسجان جلاد مهما كان لطيفا وحسن الاخلاق…والكبران قواد حتى وان منحك امتياز….
الصداقات ضرورية لكن لا مكان للعشرة …في المرناقية تصوحب اما ما تعاشرش
في المرناقية تعرفت على كمال لطيف واكتشفت الانسان بعيدا عن الشيطنة وفانتازما القطيع…
في المرناقية رأيت لاول مرة في المباشر راشد الغنوشي وفهمت مع الايام انه لم يعد في انتظار الشىء الكثير من الحياة وكانه يفضل الذهاب من داخل زنزانته على ان يخرج لتنهش لحمه الغربان…
في المرناقية استمتع مرتين في الاسبوع بمناقشة سي عبدالحميد في الدين والسياسة وبالضحك مع رضا وخيام وبتحليل الاخبار والاوضاع مع عصام وبالتنبير على غازي كلما اكثر من الدلال …
في المرناقية اعانق اخي …اشتم رائحته …وادفئ يديه بين يداي …اقاسمه القهوة مع سيجارة “camel” ، نتحدث عن الاحوال ونتبادل الاخبار ونفسر حتى الاحلام …نضحك ونبكي ونستهزء من هذا الزمان … الى ان يأتي السجان ويذكرني وان الوقت قد حان لغلق البارلوار فلم يبقى من المحامون الزوار غيري …
ألملم شتاتي واصطحب اخى الى الباب الحديدي الكبير ، ارشه من عطره المختار ، واتمنى له القوة والصحة لمواصلة تحمل هذا البلاء…
اقبله واعانقه بقوة لتبقى اثار ضغط اصابعي على جسده تؤنسه الى ان يصل الى زنزانته واتوارى انا عن الانظار.
فتراني لكل هذا اقضي نصف اسبوعي في المرناقية في زيارة الاحبة والاصدقاء…
في المرناقية استريح من هذا العالم الكذاب …ومن هذا المجتمع المنافق …ومن هذه الصداقات المزيفة التي تبعث فيا الاشمئزاز…
في المرناقية اريح قلبي وعقلي من ردائة هذا الزمان…”.
شارك رأيك