سنفترض أن سيادة الرئيس قيس سعيّد حريص على مواجهة الفساد و أنه مؤمن تماما بالشعارات الكثيرة التي يرفعها و أن انتهاج سياسة الغلظة في الخطاب و إرسال الاتهامات و التهديدات ستخيف الفاسدين بل ستجعلهم يرفعون الراية البيضاء و يعيدون للشعب ما نهبوه من أموال و ما استولوا عليه من عقارات و أراضى، لنفترض، لكن هل هناك شخص يملك ذرة من العقل و قليلا من الخبرة و الحكمة يؤمن أن الشعارات التي يرفعها الرئيس ستصبح حقيقة بقدرة قادر أو بين عشية و ضحاها؟ (الصورة : قيس سعيد في معمل العجين و الحلفاء بالقصرين).
بقلم أحمد الحباسي
مثلا هل أن إحالة كوادر بنكية كبرى على قلم التحقيق ستزيل رائحة الفساد المستشرية في كل البنوك التونسية بدون استثناء؟ هل أن الفساد “المعشّش” في معمل الفولاذ أو موانئ تونس أو شركة فسفاط قفصة أو شركة التبغ و الوقيد أو الصيدلية المركزية أو وزارات الصحة و التعليم و الصناعة و التجارة أو الصناديق الاجتماعية أو المؤسسات العمومية مثل شركات النقل العمومي بكل فروعها سيزول بمجرد خطاب أو تحذير أو تهديد بالمحاسبة ؟
لنقلها بمنتهى الصراحة، زيارات السيد الرئيس لبعض المؤسسات و المباني و الشركات قد تبقى بلا نتيجة و بلا مردود لأن “اللي يسرق يغلب اللي يحاحى” كما يقول المثل و لا نظن أن زيارة إلى مستودع شركة النقل بباب سعدون ستقضي على الفساد أو ستحدّ منه على الأقل لأن مشكلة السرقات ستظل متواصلة و مشكلة اللامبالاة ستتواصل و مشكلة مفهوم “رزق البيليك” ستتواصل لأن الأمر متعلق بالعقليات و بالضمير المهني و الإنساني و بالقناعات الشخصية و الذين يعيشون يوميا في ذلك المستودع يعلمون أن كلام السيد الرئيس لن يغيّر من الواقع شيئا و حتى أن ظهر هناك تغيّر ظرفي فإن حليمة ستعود حتما مع الوقت إلى عادتها القديمة و ستبقى معدات الشركة و مصالحها مهددة بالتلاشي و النهب.
الفساد صباحا مساء و يوم الأحد
عقلية “رزق البيليك” و مفهوم الربح السريع و غياب الرقابة الحازمة ستبقى منتصرة مهما تعددت الزيارات و الخطب و التهديدات. كما أن انتشار الفساد بكل عناوينه المستفزة يؤكد و يثبت أن التونسي ميّال بالفطرة و التبني و بالرضاعة، إلا من رحم ربى، إلى ممارسة الفساد صباحا مساء و يوم الأحد.
بطبيعة الحال ليس صدفة أن تكون الدانمرك مثلا الدولة الأقل فسادا في العالم لأن هذا البلد يعتمد نظام نزاهة صارم يراقب كل السلطات و المؤسسات العامة و الخاصة تحت إشراف وكالة وطنية دستورية لا تتأثر بتغيّر الحكومات متخصصة في الرقابة المالية و كيفية التصرف و تطالب كل مسؤولي الدولة في الحكم أو في تسيير المؤسسات أو القطاعات بالإفصاح المالي الدقيق و الشهري عن كل مداخيلهم و مصاريفهم.
ليس صدفة أيضا أن تكون للصحافة الاستقصائية تحديدا و للإعلام عموما دور فاعل في مكافحة الفساد و سقوط بعض كبار المسؤولين دليل ناجز على أهمية الصحافة الجادة التي لا تبحث عن الإثارة بل على الحقيقة مهما كان موقع الشخص المستهدف بالتحقيق.
بالمقابل نجد أن القضاء و بعض كبار المسؤولين في الدولة لا يجدون حرجا في التعرض إلى حرية الصحافة متجاهلين أن تصرفهم يمسّ بأركان الديمقراطية و بحق المواطن فى المعلومة و بحرية التعبير الواقع الإشارة إليه بالدستور.
منظمة رقابية مستقلة لا تتغير بتغير الحكومات
هل حاربت الدانمرك الفساد بمثل جولات السيد الرئيس؟ هل صدرت خطب أو تهديدات أو إشارات إلى منصات صواريخ جاهزة للإطلاق أو عبارات تتحدث عن واجب رجوع الأموال المنهوبة للشعب؟ هل اجتمع رئيس حكومة الدانمرك بالوزراء ليلقي عليهم خطبا في علاقة بمحاربة الفساد و هل تولى تهديد القضاء أو كبار المشتبه بهم من المسؤولين؟ هل زار رئيس الحكومة مقرات البنوك في غسق الليل ليباغت من وجد من الموظفين بمثل تلك التصريحات و بتلك الملفات التي لا نعلم مدى صحة ما تتضمنه من اتهامات وحده القضاء المستقل قادر على الحكم عليها؟
بالعكس، الحكومة اختارت اللجوء إلى منظمة رقابية مستقلة لا تتغير بتغير الحكومات و أعطتها صلاحيات رقابة و تصرف واسعة للقيام بدورها كاملا مع تمكينها من كل اللوازم و المعدات و الكوادر حسب طلبها و بذلك رفعت عن نفسها مسؤولية محاربة الفساد و اتجهت إلى دورها في التخطيط و استنباط الحلول لمعالجة المسائل الاقتصادية أو الاجتماعية المطروحة.
يمكن أن نقول أن “كل بلاد و أرطالها” و أن الأوضاع تختلف من بلد إلى آخر و أن المقارنة بين تونس و الدانمارك لا تستقيم لأسباب كثيرة منها أن مشاكلنا و ثقافاتنا و أوضاعنا تختلف اختلافا كبيرا… لكن الواضح لكل الملاحظين أن المنهج الدانمركي في محاربة الفساد أقل كلفة وأرفع إنتاجا و نتائج من المنهج التونسي المعتمد إلى حد الأن سواء قبل أو بعد 25 جويلية 2021.
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك