لم تستطع شهوة القتل لدولة إسراثيل، وسُعار التدمير، وشبق التخريب، أن تُسكِت أغاني الأطفال في فلسطين، ولا أن تمنع النساء عن ترويداتهن[1]، وهز سرائر أولادهنّ، ولا الرجال عن سعيهم الحثيث في البحث عن الطعام لعوائلهم.
بقلم هيا فريج *
كسِرَتْ فرحة الأطفال، وأطفئت فوانيسهم، وقُصِفتْ زينتهم، ومُنِعت مساجدهم من التكبير والتهليل، لكنّهم أصروا على أن يدوروا حولنا في المخيم بين الأزقّة المدمرة، وحول البيوت الراحل أهلها إلى عليّين، أو إلى الجنوب مغنين “حالّو يا حالّو رمضان كريم يا حالّو”.
لا تلفاز، لا إنترنت ولا كهرباء لنعرف قرارات لجان الإفتاء في العالم الإسلامي بإعلان مشاهدتهم لهلال رمضان أو تعذّر رؤيته، لكن خرج عندنا صوت الأطفال الذين لم يموتوا، فثَبتَ الهلالُ، ونوينا الصيام فريضةً لله، وتأكدنا أنّ شعبنا ما زال حيًّا، وأن الروح باقيةٌ مهما حاولوا إبادتها.
أقبل شهر رمضان على المسلمين بروحانياته المعهودة، وسط احتفالاتهم لاستقباله، وتجهيزاتهم استعدادًا لقدومه في بيوتهم، لكنه أطلّ علينا ومعظمنا نازحٌ في الخِيَم ومراكز الإيواء، وفاقدٌ للأهل والأحبّاء، ومفتقدٌ لكل أساسيّات الحياة من ماء وكهرباء وغذاء. لا سقف يؤوي معظم أهل غزة، فقد دُمرت أكثر من 75% من مساكنهم في الشمال والجنوب، ولا أذان يُرفع في معظم مساجد القطاع، وخاصة شماله بعد تدمير كل المساجد فيه.
وَحدهُ الدمّ المسكوب عنوانٌ لرمضان في غزة، فبالشهداء نرفع أذان الفجر إيذانًا ببدء الصيام، وبهم نطلق مدفع الإفطار فرحةً بمن اختاره الله ليلاقيه شهيدًا صائماً.
مشاهد القتل بالجُمْلة
في هذه المدينة لا محلات تفتح أبوابها للعروض الخيالية على البضاعة، ولا صالات تعرض أمسياتٍ ساحرة، سوى ما ترونه من مشاهد القتل بالجُمْلة، والنواح على بقايا أجساد الشهداء، والبكاء على الأطلال. ففي غزة كُتِب على جبينِك أن تقتل، إن كنت نائمًا أعزلاً في بيتك، أو مناضلًا على الجبهة، ستُقتَل إن كنت صامدًا في بيتك، أو نازحًا في خيمة، أو لاجئًا إلى مدرسة أممية. ستقتل لو استبسلت في القتال، أو استسلمتَ. ستقتل لو مجدتَ السابع من أكتوبر، أو لعنتَه.
ستقتل جائعًا أو باحثًا عن الغذاء، ستقتل بسقوط مظلة المساعدات، أو برصاص الأعداء. في غزة أنت مشروع شهادة، إن رفعت السلاح أو الراية البيضاء.
كانت غزة مدينة عزيزة أبيةً مضيافةً، وكنا نتسابق في إكرام الضيوف، ونتباهى بأعداد الزوّار، ونتبادل الصحون الممتلئة مع كلّ من في الجوار، ونحتار في صنوف الطعام على مائدة الإفطار. أما اليوم فالكلّ منّا يشتهي كل شيء ولا يجد أي شيء! صارت الخضار والفواكه واللحوم والدجاج والمعلبات حلمًا من أحلام الصامدين في شمال غزة، فلا غذاء في الأسواق سوى حشائش الأرض من “الخبيزة” و”البقلة”.
كنت دائمًا ممن ينتقد موائد إخوان الشياطين المبالِغين في الإسراف والتبذير -خاصةَ- في رمضان، إذ يخالفون فيه روح الشريعة، وحكمة الصيام المتمثلة في التقرب إلى الله، وتهذيب النفوس، والإحساس بالمحرومين. وكنت أردد رأي المفكر علي شريعتي بأن المسلمين يصومون صوم الإمام عليّ -الذي كان يفطر على خبز الشعير- لكنهم يفطرون على موائد معاوية الذي عرف بحبه للأكل، وإكثاره منه. ومع محاولاتي طيلة السنين الماضية للتأسي بأخلاق النبي محمد وآله في الصيام، إلا أنني لم أدرك معنى صيام الإمام علي الحقيقيّ حتّى جربنا أن ينفد الطعام بشكل تامٍّ في شمال غزة.
يحاول العالم تبرئة نفسه من مشاركته في جرائم الإبادة والتجويع، فيضغط لإدخال شاحنات الطحين إلى الشمال، دون ضمان لحياة الشباب المنتظرين، إذ أن العودة من دواري الكويت والنابلسي غير مأمونة العواقب، فقد تحمل كيس طحين، أو جثة شهيد، وقد ترجع بإصابةٍ قاتلة أو بعاهة مستديمة.
ثم يخرج العالم علينا مرة أخرى بمهزلة إسقاط المساعدات عبر الطائرات، إذ يسقط بعضها في البحر، أو في برك المجاري، ويتبارى الناس في الحصول عليها، ويتعاركون من أجل وجباتٍ تلقيها الطائرات، دون أن تصل لمستحقيها، وكأنهم يتعمدون إذلال الناس، وتمريغ أنوفهم بالتراب، إذ إن دخول المساعدات دون حمايةٍ أمميّةٍ، ودون آليةِ توزيع عادلة يعني استمرار المأساة، وتفاقم الجوع في الشمال.
كيف يهون على المسلمين دماء أهلهم النازفة منذ أكثر من 150 يومًا؟ وأي صيامٍ يصومه المسلمون وجيرانهم جياعٌ لا يجدون ما يأكلون؟ عتبنا محبةٌ، وأملُنا كبيرٌ، ورهاننا رابحٌ، فالخير باقٍ في الشعوب العربية، والثورة حاضرةٌ في حناجرهم، والحزْم والحسْم مجبولٌ بأيديهم، وحين يتحركون سيقلبون كل الموازين.
* باحثة فلسطينية من غزة.
[1] “الترويدة” فن شعبي فلسطيني وهو نوع من الغناء تؤديه النساء وغالباً ما يكون مشفراً حيث ارتبط بثورات الشعب الفلسطيني في الثلاثينيات ضد الاحتلال البريطاني والنشاط المتصاعد للعصابات الصهيونية. يقوم الشفير في فن الترويدة على إضافة حرف اللام الى الكلمات وفي نهاية الشطر. اشهر هذه الترويدات هي “ترويدة شمالي” و”يا طالعين الجبل”.
شارك رأيك