لم يعد سرا أن الفساد السياسي قد أصبح مؤسسة قائمة بذاتها و أن هناك تمويلا و خطط و مشاريع تعمل ليلا نهارا على تضليل الرأي العام و بث الفوضى الذهنية و هناك مصالح ضيقة تتعلق بطموحات أشخاص و أطماع دول كما يوجد هناك من سخر نفسه لخدمة هذه المؤامرات الخبيثة متخفيا تارة و مكشوفا تارة أخرى.
بقلم أحمد الحباسي
في هذا المجال كشفت تقارير و دراسات و من أهمها تقارير محكمة المحاسبات لسنوات ما بعد الثورة على وجه الخصوص كيف تمّ تمرير مليارات المال الفاسد لتغذية أرصدة كثير من الأحزاب و الشخصيات السياسية و كيف لعب هذا المال الملوث دورا فاعلا في نجاح حركة النهضة مثلا و في إقناع كثير من نوابها و بعض المتحالفين بالتصويت لفائدة تمرير عدة مشاريع قوانين تخدم المصالح القطرية و التركية.
فى الواقع هناك من يتساءل هل وقعت الساحة السياسية التونسية ضحية حملة أو حملات تضليلية غرضها التأثير فى هذا الاتجاه أو ذاك أو خدمة هذا الحزب أو الشخصية السياسية و هنا نتذكر تحقيقا جديا أنجزه أحد المراكز البحثية الأمريكية في هذا الموضوع كشف أن شركة تونسية قد مارست تضليلا الكترونيا متعمدا الغرض منه رصد حسابات وهمية على مواقع التواصل سمّى في حينه “بعملية قرطاج” لتوجيه الناخبين في انتخابات 2019.
ربما كشفت “عملية قرطاج” وجود مثل هذه المواقع الألكترونية الممولة من جهات محلية أو خارجية التي تسعى إلى تضليل الرأي العام و تغيير وجهة تفكيره إلى مرشح رئاسي معين و هو أمر تفطنت إليه شركة فيسبوك مما اضطرها إلى حذف أكثر من 300 حساب وهمي تديرهم شركة إسرائيلية و لكن من الثابت أن عملية التضليل المتعمدة قد تواصلت و آخرها هذا الاستقصاء الكاذب الذي نشرته شركة غامضة و غير معروفة أصلا إسمها “تونيزيا ميترز” و التي وضعت الرئيس قيس سعيد في قائمة الحاصلين على نوايا التصويت في الرئاسية القادمة يليه السيدان المنذر الزنايدي و الصافي سعيد.
مؤسسة وهمية
بطبيعة الحال كان في نية هذه المؤسسة التي قيل أنها وهمية ولا وجود لها على أرض الواقع (أنظر بعض التقارير الإعلامية و آخرها التحقيق الذي أجراه موقع “الكتيبة” المعروف بجديته) تغيير موازين القوى على الأرض و ترجيح كفة معينة أو جهة سياسية على حساب أطراف أخرى لها وزنها الثقيل مثل الحزب الدستوري الحر و زعيمته المحتجزة بالسجن الأستاذة عبير موسي غير عابئة بما يمكنها أن تلحقه من ضرر جسيم بالعملية الانتخابية و بالديمقراطية التونسية الناشئة.
لا يمكن الحديث عن مؤسسة “تونيزيا ميترز” الوهمية دون الحديث عن الدور الخبيث الذي لعبته ما يسمى بشركة انستالينغو لصناعة المحتوى و ما رافق كشفها من تحقيقات و إيقافات شملت شخصيات كبرى من حركة النهضة أولهم مرشد الحركة الشيخ راشد الغنوشى و ابنه و صهره وزير الخارجية السابق رفيق بوشلاكة مرورا برئيس الحكومة السابق السيد حمادى الجبالى.
لقد تم اتهام هذه الشركة المشبوهة التي لها ارتباطات معينة بجهات تركية و قطرية استخباراتية بافتعال حملات مدروسة و موجهة لتشويه السياسيين و قيادة ما يسمى بحملات التأثير الرمادي في الرأي العام من خلال شبكات التواصل الاجتماعي و تبييض الأموال و التحريض على الفوضى و زرع الفتنة.
من الواضح أن استبيان مؤسسة “تونيزيا ميتيرز” قد وضع خصيصا لخدمة الطموحات السياسية للسيد منذر الزنايدي في حين تم وضع إسم السيد الصافي سعيد لوضع حاجز معنوي لدى الجمهور الانتخابي ضد السيدة عبير موسي دون سواها باعتبارها أكثر الشخصيات الفعلية المؤهلة بالفوز أو على الأقل إبداء منافسة قوية جدا للرئيس قيس سعيد.
ربما لم يعط البعض أهمية لتصريحات سابقة و متعددة للسيدة عبير موسي تشكك فيها في نتائج الانتخابات الرئاسية بالذات كما أنه من الثابت أن عمليات تضليل الناخبين قد تداخلت في الحملات الانتخابية للمرشحين قيس سعيد و يوسف الشاهد و نبيل القروي و بهذا المعنى فقد أصبح و بالذات بعد نشر نتيجة سبر الآراء الوهمي الذي نشرته مؤسسة “تونيزيا ميترز” ما يبرر إطلاق الشكوك نحو من شملهم نتائج التصويت المشبوه و التساؤل المشروع حول الأسباب التي جعلت النيابة العمومية لا تفتح تحقيقا جديا و سريعا و معمقا حول الموضوع و هل أن ما نشرته هذه المؤسسة لا يدخل تحت بند الإشهار الكاذب أو مقتضيات المرسوم 54 سيء الذكر و لماذا تم التعتيم الإعلامي على هذه الفضيحة الإعلامية التي تزيد من تعفن المناخ السياسي.
تلاعب مفضوح
هل بات التساؤل حول شعار الشرعية الانتخابية مشروعا في ظل ما كشف من حقائق دامغة تؤكد وجود تلاعب مفضوح بالرأي العام تناوبت في القيام به جهات إعلامية و أموال فاسدة و عمليات مخابرات متآمرة حتى يتم انتخاب بيادق تخدم مصالح أجنبية و لن نذيع سرا حين نذكر بأنه سبق بعث قنوات إعلامية و مواقع الكترونية في كل الانتخابات السابقة ما بعد ما يسمى بالثورة لتضليل الصوت الانتخابي و خدمة مرشحين معينين إضافة إلى شراء الذمم و الأصوات ثم اندثرت تماما بمجرد انتهاء الانتخابات.
لعل هناك وجه شبه بين ما كشفته وسائل الإعلام حول فضيحة تلاعب مؤسسة تونيزيا ميترز الوهمية بنوايا التصويت لخدمة مرشحين يعينهما و بين مسرحية “الفيرمة” للمخرج التونسي غازي الزغبانى التي سلطت الضوء على تلاعب وسائل الإعلام بمختلف أنواعها و تعدد مموليها بعقول و عواطف المواطنين و تضليل الرأي العام و تلميع الفساد السياسي.
هذه المسرحية تحاول إلقاء الضوء على الفساد السياسي و ذلك عندما يحيد العمل السياسي عن المبادئ ليبتعد تماما عن التنافس النزبه خاصة في الانتخابات منتهية إلى توجيه نقد شديد إلى ما سمي بتحرج العمل السياسي إلى مرتبة “الفجور” و هو توصيف خطير لما وصل إليه الحال في تونس.
لن نذيع سرا أيضا حين نشير أنه و منذ نشر نتيجة سبر الآراء الوهمي للشركة الوهمية تونيزيا ميترز قد وجهت أصابع الشك و الاتهام السياسي للسيد المنذر الزنايدي المتهم بكونه “غواصة النهضة” خاصة و أن العديد من الصفحات الفيسبوكية التي انتشرت بشكل لافت جدا في فترة وجيزة مثل “الشعب يريد منذر الزنايدى” قد نزل عليها هذا المحتوى المزيف بردا و سلاما لتتعمد نقله و التركيز عليه لقيادة حملة دعائية لصالح الرجل و لعل التدقيق في المعطيات الخاصة بهذه الصفحات المأجورة قد كشف أنه يحيط بها كثير من الغموض خاصة بعد أن تبين حجب الأسماء الحقيقية للقائمين عليها و لذلك فقد كان لافتا أنه و رغم نفى السيد المنذر الزنايدي علاقته بالموقع المزيف فقد واصلت تلك المواقع المساندة الترويج لنتيجة سبر الآراء الوهمية و هو ما يدعو للتساؤل حول الصمت المخيف لهيئة الانتخابات التي يضع الكثيرون علامات استفهام متعددة حول رئيسها السيد فاروق بوعسكر.
من الثابت ان فضيحة مؤسسة تونيزيا ميترز ستتلوها فضائح أخرى و من الثابت أن عزوف الناخب سيكون مرتفعا ليؤكد الحقيقة القائلة بأن هذا الناخب لم يعد يثق في أغلب الفاعلين السياسيين.
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك