تناولت عديد الأدبيات الطابع العمراني لـ”تونس العاصمة” بداية من القرن العشرين، وبرزت شوارعها في هذه الكتابات كصفحات تروي تاريخ المدينة و تاريخ الوطن. شيء ما يربط التونسي ومن كل الطبقات بشارع الحبيب بورقيبة، وشيء ما يجعله يعتقد أنه خلاصة عصره ومرآة القرن وذاكرة مستقبله.
العقيد محسن بن عيسى
75 سنة من الاستعمار!
لنفهم البدايات، علينا أن نعود بالزمن إلى الوراء قليلا ونلقي نظرة على حقبة الاستعمار. ينبغي ألاّ ننسى أنّ فرنسا استحوذت شيئا فشيئا على جميع الميادين، سياسة وإدارة وتعليما واقتصادا وفلاحة وتجارة وكادت تمنعها على التونسيين.
وفي هذا السياق قررت بناء مدينة أوروبية تكرّس الواقع الاستعماري. حرصت على أن يقوم المجال الجديد على محورين هما شارع البحرية (شارع بورقيبة حاليا) Avenue de la Marine وشارع قرطاج Avenue de Carthage، كبديل للتخطيط التقليدي الذي تمثله النواة الأولى للعاصمة والتي باتت تُنعت بـ “المدينة القديمة” التي تحتضن ضاحيتان رئيسيتان “ربط باب سويقة” شمالا و”ربط باب الجديد” جنوبا.
هكذا أصبحنا إزاء مدينتين في مدينة واحدة، مدينة يمثلها الجناح الأوروبي المحمي الذي يهتم بمصالحه والمدينة العربي التي يسود فيها الشقاء والغبن ويمثلها الأهالي المهمشون من أبناء الأرباض والنازحون القادمون من الأرياف.
إمعانا في الإذلال ارتأت فرنسا تكريم أحد رموزها “الاستعماريين” بتغيير تسمية شارع البحرية الجديد سنة 1900 ليصبح شارع جول فيري Jules Ferry ونصب تمثال له. وللتذكير فان جول فيري (1832-1893) كان المروّج للسياسة الاستعمارية الفرنسية في تونس. وهو في الواقع من أذن بالعمليات العسكرية في منطقة خمير في الشمال الغربي وغزو البلاد برّا وبحرا، وفرض معاهدة باردة في 12 ماي 1881.
تهيأت الظروف للتغلغل المباشر تحت شعارات خادعة لتجعل هذا الشارع من باب بحر إلى الرصيف البحري منطقة تجوال، وفضاءً مفتوحا للتنشيط الموسيقي العسكري الخميس والأحد من كل أسبوع. لقد حرصت على أن يكون قلب المدينة التي تطورت حوله ضمن منهجية مُحكمة تخدم مصالحها، ومجالا يبرز الظهور المتمدن للفرنسيين، سكنا وعملا ومعيشة وإدارة.
تأسست الخطة العمرانية على وعي المستعمر بطبيعة الإنسان المستعمر، فانتشرت المباني الجديدة على الجانبين : فنادق ومقاهي وبريد وقنصلية ومقر إقامة للمقيم الفرنسي (سفارة فرنسا حاليا) وكاتدرالية. وكان “المسرح” الذي تم تدشينه في 20 نوفمير 1902 معلما بارزا للفن الرابع ينشط من 15 نوفمبر إلى 15 ماي، وكان يسمى “مسرح الكازينو البلدي Théâtre du Casino municipal. حاول المستعمر أن يستألف الأعيان من المتعاونين معه، ثم الأعيان من سائر المواطنين، ثم فئات مُعيّنة من الشعب.
الشارع زمن البناء والإنماء
سقط الاستعمار وعادت الأرض لأصحابها، وبانتهاء الاستعمار حلّت بداية جديدة. ومن المناسب أن نستهل الحديث هنا بالإجراءات التي اتخذتها الدولة المستقلة لإنهاء الاحتلال وبناء المؤسسات وإعادة الطابع التونسي لوسط العاصمة.
تغيّرت التسمية ليصبح شارع جول فيري شارع الحبيب بورقيبة الرئيس الذي قاد البلاد نحو الاستقلال، وفُتح الشارع الرمز للنزهة والسياحة والتسوق والثقافة والفن والخدمات والمعاملات المالية.
الذاكرة الجماعية للشعوب تجسّد المرافق العامة، حتى لو شُيّدت في حقبات مضت، أو ثار الشعب عليها سابقا. على هذا المعنى اختارت الدولة تركيز وزارة الداخلية بهذا الشارع وفي مكاتب إدارة الأمن الفرنسية، بعد محطة أولى وقتية بالقصبة قرب رئاسة الوزراء. لقد أحدثت الوزارة بمقتضى المرسوم المؤرخ في 6 أكتوبر 1955 وكان أول وزير بها المرحوم المناضل المنجي سليم.
لم يغب البعد الثقافي عن الاهتمامات الوطنية فكانت أولى المبادرات تكوين “فرقة مدينة تونس للمسرح” في جانفي 1955. لقد عرف الفن المسرحي عصره الذهبي في هذا الشارع انطلاقا من 1958 ليتدعم سنة 1982 بتنظيم أيام قرطاج المسرحية.
كان البعد العمراني حاضرا أيضا، وكانت أولى بصمات الدولة انجاز مثال التهيئة العمرانية للعاصمة سنة 1957، ودعم مبادرة الوالي-شيخ المدينة في إحداث جمعية لصيانة المدينة سنة 1967. ولئن ترددت السلطة في ربط القصبة بشارع الحبيب بورقيبة لاعتبارات مالية، فإنها سارعت بدعم مشروع بناء “نزل أفريكا” بطوابقه الـ 20 وفقا لأمثلة المهندسين المعماريين أوليفية كليمان كاكوب وجيسون كيرياكو بولوس. افتتح النزل مع مركز التسوّق به سنة 1970، وتغيّر وجه العاصمة والسياحة التونسية. كانت هذه هي المرة الأولى التي تمتلك تونس ناطحة سحاب على الطراز الأمريكي، ومركز تجاري بارز لا يمكن فصله عن “بانوراما” العاصمة.
غير بعيد وفي منتصف الشارع أقيم في السبعينات تمثال المؤرخ وعالم الاجتماع عبد الرحمان بن خلدون والذي أنجزه الرسام والنحات زبير التركي. وفي ذلك رسالة بان الدولة لن تتوانى في حماية القيم التاريخية والهوية الثقافية للشعب التونسي. جدير بالذكر أنّه لم ينل كاتب في اللغة العربية ما ناله ابن خلدون من مكانة وشهرة، ولم يحظ عالم في التاريخ بما حظي به.
شارع بورقيبة عرف بشارع الورد، والكتاب، والصحافة، فهو القلب النابض للعاصمة وملتقى النخب من مفكرين وسياسيين وفنانين. شارع تمتد على ضفتيه المقاهي والمطاعم والنزل التقليدية و لا يهدا حتى آخر ساعات الليل.
رسائل الشارع المسيّج
لكل ّ نظام سياسي من يعارضه في الرأي وهذا امر طبيعي طالما كان الاختلاف حول ما هو أصلح للوطن. ولكن الرئيس السابق زين العابدين بن علي أضاع فرصة احتواء الراي المخالف والوقوف على منصة التاريخ. فعلى امتداد 23 سنة من حكمه عمّ الفساد البلاد بشكل لا يمكن تصوره، مما جعل الشعب كله في انتظار شرارة للإطاحة بنظام حكم استبدادي.
دقت ساعة الحسم، وخرج الشعب في كامل انحاء البلاد، وكانت العاصمة أكثر تأثرا بالوقائع والمجريات. تجمعت أمام وزارة الداخلية مظاهرات يوم 14 جانفي 2011 وأُجبر الرئيس المخلوع على المغادرة، ليصبح الشارع أحد رموز الثورة التونسية وفضاءً يتقاطع فيه الصراع السياسي والاجتماعي.
حكومات متعددة مرت منذ 2011 عرف معها هذا الفضاء العام حالات من العشوائية والتسيّب. وشهد عمليات تفجير إرهابية داخله، وفي أبرز الأنهج المتعامدة معه. وصلت دراما الأحداث إلى قمتها وأثرت وقائعها في السلوك الجماعي والعمل الأمني.
انتهت موجة “الثورة” بكل آمالها ووعودها وإحباطاتها وخيبة أمل الشعب في تحقيق أهدافها. وتراجع مفهوم الفضاء العام، وتلاشت معانيه المادية والرمزية. لقد عملت القوى نفسها التي أنتجته على تهميشه. فالفضاء العام يحتاج إلى وضوح القانون في ظل سياق مجتمعي ملائم، ويتطلب رفع المضايقة والمنع والاجبار.
نأمل في جميع الأحوال، أن يعود شارع الحبيب بورقيبة كفضاء عام اجتماعي منتجا للتفاعل بين رواده، وكنموذج للجمالية والتمدن وحرية الحركة والتجوال، وتعود العاصمة كمدينة ثقافية ناهضة باستمرار، وسياحية من الطراز الأول.
ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك