التطرف والغلو والمبالغة والانحياز، هو نسيج وسدى كتاب “أبو الريحان البيروني” تأليف علي الشابي الصادر أخيرا في ثوب قشيب وإخراج جميل ولكن بفكر وأسلوب بعيدين قدرا ما عن العلم الخالص والمنهج السليم وقريبين قدرا ما كذلك من الإثارة لتزكية النفس عن طريق قدح الآخرين وقلب الحقائق لخطف الإعجاب وحوز التقدم والصدارة وحسن الذكر دون سائر المتقدمين والمتأخرين.
الدكتور المنجي الكعبي
وهذه نزعة لا تكاد تفارق قلم الدكتور علي الشابي مع تقديرنا لشاعريته الثرة ونثره الفني الرائق، لكن البحث والتحليل والنقد والتعليل والحياد والموضوعية كلها صفات نجدها تعوزه دائما في كتاباته الشابية.
وهذا معذور في حديثه عن صوفية أسلافه التي قامت على حكم مريديهم في القيروان وليس أكثر، وسقطت لأنه حكم قام على الطرقية وليس على الدين، نقصد الدين المجرد عن شطحات الصوفية الملازمة لبعض الأقطاب في جميع أحوالهم، وهو ما لا يناسب لقيادة الجماهير على بصيرة من أمرها ودراية بدينها القويم.وهو معذور كذلك عندما يتحدث عن أبي القاسم الشابي وتأثره في شعره بالتصوف، رغم ما لا يجده أي قارئ لقصائده من أثر صوفي إلا ما يكون من باب الخيال المجنح في بعض صوره، وهو الشاعر المفتون بالرومانسية في عصره وخيالها المجنح في الآداب الأخرى وزعَم كطه حسين في الشعر الجاهلي مزاعم مثيرة للأزهريين ثم تراجع كما هو معلوم لأنه حقق غرضه بالتطرف الذي ذهب اليه في الأول، للإثارة والتفرد بمخالفة السائد والمألوف وكسب عطف الغربيين ومن يحتطبون في حبلهم.
هل نقل ابن خلدون عن البيروني ؟
فهو، في هذا الكتاب عن عالم الهند الشهير في عصر ازدهار الحضارة والعلوم والمعارف شرقا وغربا أبو الريحان البيروني، يريد أن يكسر سمعة عبد الرحمان ابن خلدون ليقال إن الشابي في هذا الكتاب عدل الكفة التي تقول من هو الأول، المؤسس لعلم الاجتماع؟ وأنه دون كل من نوهوا بابن خلدون البيروني هو الأول وابن خلدون إنما نقل منه وأغفل ذكره لماذا؟ يقول الشابي بكل بساطة حسدا وادعاء!
ووصل التطرف والتحامل على الرجل أن نسب له قلة العمل بمنهجه في نقد التاريخ، يقول أهمل في كتابه تطبيق المنهج على نفسه. هذا فيما إذا أقررنا معه أنه غير مبتكر لمنهج، بل أخذه من أسلافه، من أمثال البيروني دون أن يصرح بحقوقهم عليه. فصوّره لنا رجلا في قمة الإدعاء والقصور المنهجي في كتابه. وكنّا بينا في كتابنا «ابن خلون فاتح العقول»، الذي نقدناها فيه النشرة التونسية المجهضة لإبراهيم شبوح بمناسبة مئويته السادسة، قلت بينّا الرد على مزاعم من قال بهذا الرأي الشبيه بالرأي الذي ردده علي الشابي، وهو زعم قديم اختلقه بعض المعاصرين لابن خلدون في مصر لأسباب من منافسة الرجل لهم في الحظوة أكثر منهم لدى عظماء زمانه.
وإذا أدركنا أن ابن خلدون هو في الأصل كما في تعريفه عالم فقه وعالم حديث وجاءته صفة المؤرخ من اشتغاله المبكر بالسياسة، لأن رجل السياسة بالضرورة ملم بالتاريخ والأيام والأخبار والسير، أو لا يكون إلى جانب معارفه الأخرى بمقاليد الحكم والجهاد.
وعندما كتب ابن خلدون تاريخه استخلص ما استفاده من أخبار الأمم والأقوام وقيام الدول وسقوطها وازدهار الحضارات وأفولها، وتقدم العلوم والصناعات في أيامه (الى الزايرجة الجد الٍأقدم للحوسبة الإلكترونية حديثا منذ أواخر حضارة الأندلس)، ما ملأ به مقدمته من قوانين اجتماعية وسياسية وغيرها، لتكون كالنبراس لفهم حوادث التاريخ وتقييم شخصياته والتنبئ بالأحوال ومآلاتها. فهو لم يكتب التاريخ بعد المقدمة. فلا تعييب عليه في أنه لم يطبق شروطه أو قوانينه التي بسطها في المقدمة لتنقية الأخبار، وتمييز ما يسقط منها وما يقبل، لأن ذلك هو شأن آخر غير شأن الناقل أو المدون لما تحصل بين يديه من روايات أمانة وتحسبا وترَك مهمة الجرح والتعديل لمن يأخذ بتلك الروايات المختلفة لصياغة التاريخ على وجهه المطلوب.
فأن يُروى في الأخبار أن البيروني جاءه قبل وفاته بلحظات مَن يعوده في مرضه الأخير فلا يجده يطلب غير أن يُذكّره بحكم فريضة من فرائض الميراث معقدة جدا، ويقول: أحب أن أموت وأنا أعلم بشيء لم أعلمه خير من أن أموت وأنا على جهل به! أو ما في معنى ذلك من الكلام الذي نقله لنا بكل إعجاب الدكتور الشابي في صدارة كتابه عن البيروني.
نقول لو وقف ابن خلدون على هذه الرواية لما تردد في تطبيق قوانينه الطبيعية عليها، وهو أن الإنسان بطبعه يرغب في حسن الذكر، وما أحسن ما يُذكر عنه بأنه حتى في لحظات النزع يرغب في التعلم. فجاءت هذه الرواية لتصور ذلك دون تشكيك في وقوعها بالصورة نفسها. ومثل ذلك الكثير في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف وفي كلام العرب عامة، وليس من باب الاختلاق أو الكذب ما دام القصد حسنا، فهو من الأدب حتى قالوا إن من الشعر لحكما وإن من البيان لسحرا.
وابن خلدوك لم يغمط حقا لقديم أخذه منه، ولكنه لم يكن ملزما برد كل فكرة في كتابه أو لفظة على لسانه الى زيد أو عمرو من الكتاب والشعراء أو الفلاسفة والعلماء، التي تسقّطت له منهم إلا ما يكون من الاعتراف بالسبق لمن هو أهل له، أما إذا كان اللفظ أو الفكرة من التردد على الألسنة، فالاختصار أولى في مقدمة طويلة بمقدار مجلد ضخم حتى سماها كتابا لوحده في تقسيمه العام للكتاب.
وبين الرجلين عصور وليس عصرا واحدا لنرمي بابن خلدون بجميع ما يقلل من أهميته الى الصفر، تكرمة لغيره، أو لنرفع من ميزان عبقرية أحد لا ينافسه في فقه أو حديث أو تاريخ عام أو علم وسياسة أو يتقدمه وجاهة عند سلطان أو فاتح جبار حتى نصدّق ما يشيعه بعض من يطلبون الشهرة بالعلم والبحث العلمي بتشييد أهرامات من المزاعم والدعاوى، بأن ابن خلدون إنما أغفل ذكر البيروني تحسبا للتهمة به، وهو السني المعروف بما اتهم به البيروني من ميول شيعية في بعض أحواله.
تعميق الخلاف بين المذاهب في بلاد الإسلام
فهذا الوتر معزوف عليه من قديم عهد الاستعمار والاستشراق، وهما آنيتان مستطرقتان بسياسة واحدة هي تعميق الخلاف بين المذاهب في بلاد الإسلام، تجد أصداءها فيما يسمى الدراسات والبحوث التي تحرك خيوطها بعض الأطراف الموالية لمناهضة سياسة التقريب بين المذاهب في الصف المقابل عن طريق المراكز والجامعات.
ومن أطروحاتهم الجديدة القديمة كما يقولون تصحيح الحقيقة عمن هو الأول في اكتشاف علم كذا أو علم كذا. فنحن نعرف ما تتنازعه الدول المتقدمة من ادعاءات بأسبقيتها في الميدان الفلاني أو الاستكشاف الفلاني، قبل أن تنتصب لذلك المؤسسات المختصة للقول الفصل في المنازعات المتعلقة بحقوق التأليف.
فلو فصَلنا كل ما هو من قبيل التطرف في القول والغلو والمبالغة والانحياز لبقي من الكتاب جزء بسيط هو أكثر ما كتبه السابقون عن أبي الريحان البيروني بكل رصانة وعلم ومنهجية. وكان أحرى بصديقنا الشابي أن يذكر بعضها فهي أحرى بالذكر في مصادره، والقياس عليها لتبين بعض الكتابات المغرضة التي تحطم ما تعتبره أصناما نصبها غيرهم ليقيموا على أنقاضها أصناما أخرى لذوات تتماشى مع مزاجهم أو تستجيب لعواطفهم وشعوبيتهم وعوجهم الفكري.
وكم فنّدنا من دعاوي قبل هذه في ردودنا على طعون على الرجل غير المقبولة في كتابنا المذكور قبل قليل، من أمثال طه حسين وعبد الرحمن بدوي وغير هؤلاء المشهورين ومن شايعهم من التونسيين في أفكارهم أو بعض أفكارهم عن لغة الرجل وأسلوبه (المقدوح في عربيته) وانتقاداته لسلوكيات القضاء الفاسد في مصر وتعريفه بنفسه قبل رحلته شرقا (وليس العكس) ومقابلته المثيرة لتيمورلنك ودعوى مده بخريطة لبلاده المغرب لغزوها، وتسجيله على المصريين إرخاء الحبل للصليبيين ضد تقدم العثمانيين في وفتوحاتهم المتوسعة نحو الشرق.
هذا، وأساليب المخاطبات البشرية فيما بين الناس ليس هو أسلوب المخاطبات الإلهية للبشر، كقضية الفرق بين الشعر والنثر، أو ما يجوز للشاعر دون الناثر من أساليب الكلام والمخاطبات لغة وبلاغة وتقطيعا مفصلا على نظام مخصوص.
والقرآن، فيه المبالغات والعنف وفيه التطرف وفيه الغلو في الصورة والتعجيز، لأنه مبني على مخاطبات الأقوام الضالين والمغضوب عليهم، المشركين والكفار والمكذبين وإبليس وقومه والملائكة وعالمهم النوراني، وليس في القرآن علم أو بحث علمي أو تاريخ مجرد لغاية التاريخ.
ولذلك وصفنا تأليف الكتاب الذي ظهر لنا به علي الشابي للحط من أولية ابن خلدون على البيروني في اكتشاف علم الانثروبولوجيا (علم الاجتماع كما يترجمه والحال بلسان ابن خلدون علم العمران البشري)، والغمز من شأنه دون البيروني هو من قبيل المهافتات والمناقضات بين القبائل والشعراء والناشئين، ولا يمنع من تلمس الفائدة منه، من كلام منسوب فيه للبيروني ولغيره من العلماء الذين انكبوا على تراثه وأثنوا عليه بما هو أهله دون تجريح في غيره أو قدح في منزلة من جاء بعده من العلماء والمستكشفين. فقد قال المعري: “فإني وإن كنت الأخير زمانه … لآت بما لم تستطعه الأوائل” وقول أبي الطيب وصدق من قائل: “وإذا أتتك مذمتي من ناقص … فهي الشهادة لي بأنيَ كامل”.
شارك رأيك