أجبرت المقاومة الفلسطينية الدولة الصهيونية المارقة على القانون الدولي على التفاوض، وأجبرت المقاومة الفلسطينية أمريكا على الاعتراف بقوّتها، وأبهرت المقاومة الفلسطينية العالم بأخلاقها وتنظيمها وتخطيطها وصبرها وثباتها أمام الهمجية الصّهيونية، فبدأ الاعتراف بالدولة الفلسطينية دوليا بعد طول تجاهل.
فوزي بن يونس بن حديد
استطاعت المقاومة في فلسطين أن ترسم لوحة جديدة من النضال لم يسبق لثورة أن اتبعتها ضد محتلّ، فمنذ وعد بلفور المشؤوم الذي كرّس لغة الاحتلال من جديد في الشرق الأوسط بعد أن وعد الصهاينة بوطن قومي، لم تستطع القوى الفلسطينية جميعُها زحزحة الاحتلال ولا زعزعته لا عبر المفاوضات ولا عبر الاستنجاد بالدول العربية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم أن قضية فلسطين كانت القضية الأولى على طاولة العالم إلا أنها كانت تراوح مكانها في كل مرة يجلس فيها العرب في قمّتهم بجامعة الدول العربية ويجلس فيها المسلمون في قمّتهم الإسلامية، لأن إسرائيل كانت مطمئنة إلى أن العرب والمسلمين لن يفعلوا شيئا ولن يحرّكوا ساكنا ولو اجتمعوا، بل الذي حدث أدهى وأمرّ، تفكّكت بعض الدول العربية وتمزّقت من الداخل، بدعوى ما يسمى الربيع العربي، والبحث عن الديمقراطية، كما روّجتها الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تسعى مع حليفتها إسرائيل إلى افتعال الأزمات الداخلية للسيطرة على الدول العربية والقضاء على ما تبقى من دول الممانعة وهي الدول التي كانت ولا تزال تعادي المشروع الاستعماري الامبريالي مثل العراق واليمن وسوريا والسودان، وهي الدول التي أتى عليها المشروع الصهيوني بالكامل وفكّكها وحام حولها لينشر خديعته المتمثلة في إقامة إسرائيل الكبرى.
وبينما كانت إسرائيل تنعم بالأمن والاطمئنان وهي تعيش في جوّ عربي ملي بالدسائس والخُدع والحِيل إلا من بعض الحركات التي تقاوم الاحتلال بين الفينة والأخرى، ظنّتها إسرائيل أنها لا تقوى على مواجهتها كدولة لهاعتادها العسكري الكبير وجيشها الذي لا يُقهر والذي انتصر على الدول العربية في حرب 1967 في ستة أيام فقط، وبقيت تُمنّي نفسها بهذا وتتغنّى بهذا الانتصار كلما حدثت مواجهة عسكرية بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل في الجبهة الجنوبية، وبين حزب الله وإسرائيل على الجبهة الشمالية، وكان في شبه المؤكد أن إسرائيل كانت تعتقد بأن المقاومة وإن تقدّمت في مناوراتها العسكرية فلن تصل إلى قوة الجيش الإسرائيلي، وبقيت العقيدة الصهيونية مهترئة بعد هذه الأحداث والحروب التي مرت رغم شدة بعضها كالحرب على لبنان في 2006.
المفاوضات العبثية استمرت عقودا
وكانت إسرائيل عبر حكوماتها اليمينية والعلمانية تناور العالم وتخادعه من خلال ما يسمى بالمفاوضات العبثية التي استمرت عقودا من الزمان من منطلق أن الحوار هو السبيل الوحيد لنيل الشعب الفلسطيني حقوقه، وظلت السلطة الفلسطينية تلهث وراء هذا السراب منذ 1993م أي منذ اتفاق أوسلو المشؤوم أيضا، وبقيت الدول العربية في كل قمة عربية وفي كل قمة إسلامية تطالب وتندّد وتشجب وتدعو، ولكنها لا تقرّر شيئا، فاستغل المارد الصهيوني الضعف العربي العام، وتغلغل في عصيانه وتمرّده على كل القوانين الإنسانية والدولية، ولم يلتزم بالقرارات الأممية على مدى سبعين سنة مضت بل اعتدى وارتكب المجازر الواحدة تلو الأخرى ولم يبال بالتحذيرات العربية ولا الإسلامية، لأنه قد أمن العقوبة، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الضامن في كل ذلك، تركتها تعبث بكل قرار من خلال استخدام الفيتو ضد أي مشروع يدينها في أي قضية ودعمتها سياسيا وعسكريا عبر إرسال شحنات من كل أنواع الأسلحة الفتاكة والمحرّمة دوليا في استخدامها ضد الإنسان.
حتى جاء السابع من أكتوبر 2023 اليوم الموعود، الذي غيّر استراتيجية النضال والمقاومة، من مقاومة موسميّة إلى مقاومة دائمة، فقد تعرضت إسرائيل لأول مرة منذ تأسيسها لهزّات عنيفة لم تألفها من قبل، وعدّت ما حدث في السابع من أكتوبر زلزالا لم يحدث من قبل، هاجمتها المقاومة في عُقر دارها وقتلت جنودا وأسرت آخرين في مشهد صدمها وأربكها، وأحدث فيها فجوة عظيمة وشرخا كبيرا في عقيدتها العسكرية والاستخباراتية.
ورغم أنها استعدّت وأعدت العدّة الكبيرة من الأسلحة، وحصلت على التضامن العالمي للدخول إلى غزة بقوّة، واحتلالها وتدمير قوة حماس وفصائل المقاومة والقضاء على قيادات حماس والجهاد الإسلامي وجميع الفصائل، وحدّدت أهدافها، إلا أنها فشلت إلى حدّ الآن في تحقيق أي منها لأنها ببساطة كانت تسعى للانتقام من الفلسطينيين جميعا وتمنعهم من أساسيات الحياة، وتُبيد أي متحرك على الأرض شمل ولو كان حجرا أو شجرا، في مشهد ينمّ عن الإبادة الجماعية دون أي حساب لمعاني الإنسانية والشرعية الدولية والاتفاقيات العالمية في حالة الحرب، فكانت حربًا مجنونة على أهداف بشرية بحتة لا علاقة لها بالأهداف العسكرية.
المقاومة تجبر الكيان الصهيوني على التفاوض
لقد عضّت المقاومة كتف الكيان الصهيوني الذي كان يؤلم به الفلسطينيين دون رادع، واستطاعت أن تقف ندًّا له في حرب غير متساوية، فأجهضت كل مخططاته العدوانية، وأحبطت كل عقيدته العسكرية، وبيّنت زيف أجهزته الاستخباراتية، ورغم استنجاده بالغرب إلا أنه لم يستطع أن يحدد مكان القيادات ولا الأنفاق التي تستخدمها حماس في الهجمات ولا مكان الأسرى الصهاينة المفقودين فأفقدت العدو صوابه، وقد استطاعت بهذا أن تجبر الكيان الصهيوني على المفاوضات من أجل إطلاق أسراه.
وفي الوقت نفسه، ورغم أطنان المتفجرات التي قتلت الآلاف من الأبرياء والحرب الطاحنة التي شنتها زعمًا منها أن حماس ستستسلم، إلا أنها وجدت نفسها في دائرة مغلقة وفي حرب طويلة الأمد لا فائدة من ورائها، فارتكبت المجازر الواحدة تلو الأخرى في مشاهد هيستيرية مرعبة ومخيفة، جعلت المجتمع الدولي يشكك في رواياتها القديمة التي ادعت فيها أن حماس ارتكبت المجازر في إسرائيل واغتصبت النساء وروّعت الأطفال بل انقلب عليها كل ذلك عندما عرف العالم حقيقة الكيان الصهيوني، فانتفض الطُّلّاب في الجامعات الأمريكية والأوروبية مطالبين بوقف الحرب على غزة ومنح الحرية للفلسطينيين، وطالب سياسيّوها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.
لقد أجبرت المقاومة الصهاينة على التفاوض، وأجبرت المقاومة أمريكا على الاعتراف بقوّتها، وأبهرت المقاومة العالم بأخلاقها وتنظيمها وتخطيطها وصبرها وثباتها أمام الهمجية الصّهيونية، فبدأ الاعتراف بالدولة الفلسطينية من إسبانيا وإيرلندا والنرويج التي أعلنت جميعها في يوم واحد أنها تعترف بالدولة الفلسطينية بداية من 28 مايو الجاري، وهي المرة الأولى التي تعلن فيها دولٌ اعترافها بالدولة الفلسطينية المستقلة.
كما أجبرت المقاومة إسرائيل على الوقوف أمام محكمة العدل الدولية وحشرها في قفص الاتهام، بأنها تمارس الإبادة الجماعية في غزة والضفة الغربية، وطالبتها المحكمة بوقف الحرب فورا في رفح، وقدمت لمحكمة الجنايات الدولية مذكرات اعتقال في حق المجرمين الصهاينة نتنياهو وغالانت.
كل ذلك يجري في سنة 2024، السنة التي تلت سنة الإنجاز الكبير الذي حققته المقاومة في السابع من أكتوبر وكان نتيجة جهاد استمر عقودا وتعب وشقاء امتد سنوات، بينما تقبع السلطة الفلسطينية في رام ومازالت تتحدث عن مفاوضات وهمية لا علاقة لها بالواقع بل إن إسرائيل عازمة على حلّ هذه السلطة رغم تملّقها لأنها في نظرها ضعيفة وغير جديرة بالثقة، وبالتالي لخّصت المقاومة ما جرى وما يجري في التالي: إن إسرائيل وأمريكا والغرب لا يعرفون إلا لغة القوة عندما يتعلق الأمر بالسيادة.