ما سرّ تَغَيُّر موقف تونس من القضية الفلسطينية ؟     

إن التغيّر الذي طرأ مؤخرا على الموقف التونسي من القضية الفلسطينية ليس بالأمر الهين لأن انعكاساته من الممكن أن تمس من تموضع تونس على الساحة الدولية، من صلاتها الدولية مع شركائها وخاصة مع الفلسطينيين، من علاقاتها بالشرعية الدولية ومؤسساتها، وعليه من حق التونسيين أن يتبيَّنوا وجهَ السَّداد في هذا الموقف إن وجدت، وأن يعرفوا رهاناته حتى يواجهوا تحدياته. 

فتحي الهمامي

انعقد اجتماع مؤتمر القمة العربية العادية الثالثة والثلاثين بالعاصمة البحرينية قبل ان تعلن ثلاثة بلدان اوروبية [أيرلندا، اسبانيا، النرويج] اعترافها بدولة فلسطين. وقد ترأس نبيل عمار وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج الوفد التونسي في هذا الاجتماع. 

ركز لقاء القمة [حسب بلاغ وزارة الخارجية التونسية] على الأوضاع الكارثية في قطاع غزة نتيجة حرب الإبادة المستمرة التي يشنها الكيان المحتل على الشعب الفلسطيني الأعزل وتداعياتها الخطيرة على كامل المنطقة.

وبناء عليه أكدت كلمة تونس على المطالبة بوقف فوري ونهائي لهذا العدوان الهمجي وعلى دعمها لنضالات الشعب الفلسطيني من أجل استعادة حقوقه الوطنية التي لا تسقط بالتقادم وفي مقدمتها حقه في إقامة دولته المستقلة وكاملة السيادة على كل أراضيه وعاصمتها القدس الشريف.

وهنا لا بد من القول ان هذا الموقف يعبِّر عما بنفس التونسيين، كما يتجاوب مع قناعاتهم الثابتة في دعم الحق الفلسطيني. إلا أن الوزارة لم تكتف بهذا الموقف إنما فضلت تفصّيله لمزيد التوضيح، فقد اعلمت كذلك التونسيين في بلاغها الرسمي انها قدمت احترازات على النص الختامي للقمة، علما انها سلكت نفس المسلك حين صدر البيان الختامي للقمة الإسلامية. 

قالت الخارجية التونسية ما يلي : “وإذ رحبت تونس بما جاء في الوثائق الصادرة عن القمة، فإنها سجلت رسميا تحفظها على ما ورد فيها من إشارات إلى “حدود الرابع من جوان 1967″ و”حل الدولتين” و”القدس الشرقية” تأسيسا على “موقف تونس الثابت من القضية الفلسطينية.”

هل تخلت تونس عن موقفها القديم من حل الدولتين ؟

لا شك أن تونس بلورت موقفا جديدا في ضوء هذا التفسير، يقطع تماما مع مواقفها السابقة حيث لا يمكن قراءة هذا التحفظ إلا بهذا الشكل. فقد أصبحت تونس ترى أن الدولة الفلسطينية المراد إنشاؤها لا تقتصر رقعتها على جزء من أرض فلسطين إنما تشمل كل أراضي فلسطين التاريخية، وإنها مع إقامة دولة واحدة عليها، وفي سيادة هذه الدولة على القدس الموحدة، التي ستكون عاصمة دولة فلسطين المحررة. ومؤدى ذلك انها لم تعد تعتقد بحل الدولتين على أرض فلسطين التي ظلت تدافع عليه إلى حد اليوم. 

ولكن ماذا عن مقررات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ذات الصلة التي يطلق عليها مصطلح الشرعية الدولية، هل صارت الدولة التونسية غير ملتزمة بها، وهي التي ما فتئت مع الدول العربية تعلن الالتزام بها كأساس التسوية السياسية للقضية الفلسطينية؟ إن القرار 181 نوفمبر 1947 الذي قرر تقسيم فلسطين فأنشأ بمقتضاه في فلسطين دولتين عربية ويهودية، وحكم دولي خاص بمدينة القدس، والقرار رقم 242 الذي أصدره مجلس الأمن بعد الحرب العربية الإسرائيلية لعام 1967 مطالبا “بانسحاب القوات الإسرائيلية من أراض احتلت في النزاع الأخير”، وكذلك قرار مجلس الأمن رقم 338 (1973) الذي طلب من المتنازعين وقف إطلاق النار ودعا إلى تنفيذ القرار رقم 242 بجميع أجزائه، تعتبر من الوسائل التي يعتمدها الفلسطينيون وأنصارهم لمواجهة من ينكر أهدافهم الوطنية في تقرير المصير والعودة وبناء الدولة الفلسطينية.

وبناء عليه أسأل: ما هي الأسباب التي دفعت تونس إلى التعبير عن احترازات على هذه القرارت الأممية وبالتالي على الشرعية الدولية المعنية بالقضية الفلسطينية، خصوصا وأنها لا تزال تعلن التزامها بها، وقد فعلت ذلك عند إبداء موقفها مؤخرا من قضية الصحراء الغربية (مثلا)، علما ان الشرعية الدولية كلا لا يتجزأ كما يقال؟ 

ثم لماذا تتخذ تونس هذا الموقف بعدما كانت تعتقد في حل الدولتين؟ هل لدوافع فكرية لدى السلطة التونسية، مع العلم ان الدولة [كيان معنوي، مبني على مبادىء تعاقدية] تختلف عن الفرد [كينونة مستقلة] وحتى عن المنظمة السياسية عند ترجمة الأفكار إلى مواقف سياسية. فالفرد يمكنه رفض القانون الدولي، او يعتبره ظالما، اما الدولة فلا يمكنها أن تفعل ذلك لالتزامات تقيد حركتها، وبحكم أنّ الدولة هي المخاطب الرئيسي بالقانون الدولي العام، ربما فقط يمكنها تجاهله كما يفعل الكيان الإسرائيلي؟ أم يا ترى اتخذت تونس هذا الرأي لدوافع تخدم مصلحة القضية الفلسطينية؟  

إن الدولة التونسية لا تلتقي في هذا الموقف، في اعتقادي أو حسب اطلاعي، إلا مع دولة إيران فقد جدد الرئيس الإيراني خلال كلمته في القمة العربية الإسلامية موقف بلاده الداعي إلى “إقامة دولة فلسطينية موحدة من البحر إلى النهر وفق مبادئ الديمقراطية”، معتبرا إياه “حلا مستديما للقضية الفلسطينية” مع إعلانها التحفظ على بعض بنود البيان الختامي المتعلقة بحل الدولتين. ولكنها بخلاف تونس ذهبت إلى حد بعيد في موقفها بطرحها لحل عملي لتجسيم مشروع الدولة الواحدة يتمثل في المطالبة بإجراء استفتاء ديمقراطي لجميع السكان الأصليين في الأراضي الفلسطينية بمن فيهم المسلمين والمسيحيين واليهود ليقرروا مصيرهم بأيديهم. وأكد وزير خارجية إيران في كلمة أمام الجمعية للأمم المتحدة أن فلسطين ملك لسكانها الأصليين وأن طهران ترى ضرورة إجراء استفتاء عام بالطريقة المسجلة لدى الأمم المتحدة.

موت حل الدولتين حقيقة تستعصي على الإنكار

وعليه بالإمكان القول أن إيران قد اختارت الاعتماد على مبدأ أساسي في القانون الدولي يقول بأن لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها، للاتفاف، إذا جاز التعبير، على حل الدولتين.

كما يعفيها الاعتماد على هذا المبدأ من تحديد النظام السياسي لمشروع الدولة الواحدة بما أنه يسلم للسكان الأصليين الحق في تحديد بحرية وضعهم السياسي وشكل هذه الدولة، اللذين يتوقف عليهما التعايش بين المجموعات السكانية ومستقبل هذه الدولة وديمومتها. 

لا تجيب إيران على ذلك في حين يقدم عدد من المثقفين الفلسطينيين أراء صريحة في الموضوع بعد ان تفكروا فيه.

في هذا الإطار، طرح المفكر سري نسيبة فكرة دولة ثنائية القومية التي يربطها بسيناريو عدم انسحاب اسرائيل من الأراضي المحتلة لعام 1967 فيقول إن على الفلسطينيين طلب ضم تلك الأراضي إليها الأمر الذي سيؤدي إلى أن يعيش الفلسطينيون في ظل دولة ذات نظام عنصري وقتها عليهم ان يناضلوا لنيل حقوق متساوية مع الإسرائيلين وأن يصبحوا كالمواطنين الاسرائيليين. و حِينَئِذٍ يصبحون قادرين على تمرير قانون عودة اللاجئين الفلسطينيين. فهو يتوقع أن يكون للفلسطينيين أغلبية في وقت قريب وأن يسيطروا على الكنيست. وفي مثل هذه المرحلة تتحول فلسطين و إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية…

ويرى ادوارد سعيد أن الشعبين الفلسطيني و الاسرائيلي أكثر ارتباطا أحدهما بالآخر من أن ينفصلا على الرغم من إعلان كل منهما حاجته إلى دولته المنفصلة والتحدي هو إيجاد طريقة سلمية للتعايش كمواطنين متساويين في الأرض نفسها. ودعا عزمي بشارة إلى نظام شبه فدرالي بين كيانيين قوميين خاصة وقد صار موت حل الدولتين حقيقة تستعصي على الإنكار.

اما البعض الآخر فصار منفتحا على طرح «الدولة العلمانية الواحدة» كبديل لحل الدولتين وكطريق وحيد لتمكين الفلسطينيين والإسرائيليين من التعايش والحياة المشتركة على الأرض التي سبب التنازع عليها منذ بدايات القرن العشرين من الحروب والصراعات والجرائم ما حال بين الشرق الأوسط وبين التقدم والأمن والاستقرار.

يرى سلامة كيلة ان أساس الدولة العلمانية المقترحة هو إعطاء حقوق مواطنة متساوية للفلسطينيين والإسرائيليين على نحو ينهي ممارسات الفصل العنصري والاضطهاد على الهوية، والاعتراف بالتنوع الديني ومكوناته اليهودية والمسيحية والمسلمة مع ضمان كامل الحريات الدينية بما في ذلك تعايش الأديان الثلاثة في القدس وخارجها. 

ليس هناك من حل يقول إلا الحل الذي يقوم على أن فلسطين بلد واحد، وأن على أرضها لا يمكن أن تقومَ إلا دولة واحدة علمانية ديمقراطية لكل مواطنيها. خصوصاً وقد ظهر واضحاً أن حل الدولتين لا يملكُ أفقاً قابلاً للتحقيق.

وهذا الحل لا يتحقق إلا بتفكيك الدولة الصهيونية كوجود سياسي وكيان عسكري وأيديولوجية عنصرية.

وفي ضوء الأراء المقدمة أعلاه أسأل مجددا : ما هو الحل الذي يكافح من أجله المجتمع السياسي الفلسطيني، خصوصا قواه الأساسية، لتخليص أراضيه من الاحتلال واسترداد الحقوق المسلوبة ؟ 

أعتراف فلسطيني بدولة أسرائيل

نص الميثاق الوطني الفلسطيني [ حرر لأول مرة هذه الميثاق عام 1964 وكان يسمى الميثاق القومي] على أن فلسطين جزء من الوطن العربي، وحدودها هي التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني، ويوضح أن كلا من وعد بلفور وصك الانتداب باطل. كما يشرح من هو الفلسطيني، ويسلط الضوء على مراحل الكفاح من أجل تحرير الأرض المحتلة.

 إلا أن هذا الميثاق عرف تغييرا جذريا عندما عقد المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية اجتماعا عام 1996، حذف وعدل فيه البنود التي تتحدث عن الكفاح المسلح وعن إسرائيل، استجابة للمتغيرات التي حدثت بعد اتفاق أوسلو [عام 1993].

في البدء كان البرنامج المرحلي بنقاطه العشر ثم تغير المسار نحو القبول بدولة فلسطينية على حدود سنة 1967 الذي تكرّس بإعلان الاستقلال في المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد بالجزائر سنة 1988. وعليه صار هذا الإعلان، المعترف بدولة إسرائيل وفق القرار 181 (وهو هنا يعترف بإقامة دولة لليهود)، وقَبِل بدولة وفق القرار 242، أي فقط على الأرض المحتلة سنة 1967، أساس إستراتيجية المنظمات الفلسطينية، وسياستها العملية، للتسوية السياسية رغم أن البعض منها يعتبر أنها “خطوة” نحو “تحرير فلسطين”، لكن في الواقع يبدو ذلك كغطاء “أيديولوجي” فقط، سواء كان الأمر واعٍ أو كامن في اللاوعي.

أما حركة حماس فلم يعد موقفها يختلف كثيرا عن موقف فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بعد ان كان يقول بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وبالدولة الواحدة على أرض فلسطين التاريخية. فقد اعتبرت وثيقة المبادئ والسياسات العامة للحركة [ أصدرتها في الأول من ماي 2017] أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من جويلية 1967، هي “صيغة توافقية وطنية مشتركة” مؤكدة أنه “لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال”.

واعتمادا على هذا الموقف المشترك لمنظمات فلسطينية رئيسية طالب صائب عريقات في وقت سابق إيران “ببذل مساعيها لتثبيت إسم فلسطين على خارطة العالم بدلا من المحاولات الرامية إلى إزالة إسرائيل من الخارطة”. 

في حين طالبها جزء من المعارضة “بتوضيح عما إذا كانت هناك جهة قلدت طهران مسؤولية القضاء على إسرائيل”.

إن التغيّر الذي طرأ على الموقف التونسي من القضية الفلسطينية ليس بالأمر الهين لأن انعكاساته من الممكن أن تمس من تموضع تونس على الساحة الدولية، من صلاتها الدولية مع شركائها وخاصة مع الفلسطينيين، من علاقاتها بالشرعية الدولية ومؤسساتها، وعليه من حق التونسيين أن يتبيَّنوا وجهَ السَّداد في هذا الموقف إن وجدت، وأن يعرفوا رهاناته حتى يواجهوا تحدياته. 

بتعبير آخر على الدولة التونسية أن تفتح نقاشا عاما حول هذا التوجه الجديد في سياستها الخارجية، حتى لا نقول يوما أن ما رسمته من مواقف لا يعنينا. 

فتحي الهمامي

RépondreTransférerAjouter une réaction

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.