صندوق النقد الدولي هو ذراع الرأسمالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تحكم من خلاله قبضتها على كافة دول العالم التي تعاني من صعوبات اقتصادية عبر آلية قرصنة أسواقها من خلال إلزام الدول التي تعاني صعوبات اقتصادية بسياسات تقشفية ثم رفع الدعم على المواد الغذائية والمحروقات وعديد المجالات الأخرى، ثم خوصصة المؤسسات العمومية مرورا بتحرير الأسواق للمنتجات الخارجية.(الصورة : لقاء قيس سعيد بالمديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جيوجييفا).
وليد الكسراوي
مثل نجاح تونس في سداد ديونها الخارجية للسنة المنقضية حدثا مفاجئا للمختصين والخبراء في مجال الاقتصاد خصوصاً في ظل تواصل رفض صندوق النقد الدولي الذي تعد شروطه تعجيزية بل مهددة للسلم الاجتماعي كما أشار رئيس الدولة السيد ‘قيس سعيد. ولكن تبدو الموازنات والتحديات الاقتصادية لتونس صعبة بل قاسية بين القدرة على تمويل ميزانية الدولة بمواردها الذاتية و تغطية احتياجاتها من التمويل الخارجي دون خيار اللجوء لصندوق النقد الدولي.
هذه الموازنة تجعلنا نتساءل عن مدى قدرة الدولة التونسية على مجابهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية لهذه السنة.
تونس والإيفاء بتعهداتها الخارجية
تمكنت الحكومة التونسية من سداد الديون الخارجية التي حلّ أجلها سنة 2023 رغم صعوبات الخروج إلى السوق المالية الدولية وتعطل اتفاقها المالي مع صندوق النقد الدولي الذي يعد أهم الجهات الدولية المانحة.
تسعى تونس إلى المحافظة على مكانتها في الأسواق الداخلية والخارجية والإيفاء بتعهداتها المالية رغم العراقيل التي تواجهها.
ويقول مراقبون إن البلاد تعاني من عجز في المالية العمومية، مع اضطرابات في وفرة النقد الأجنبي، الذي بلغ 109يوم توريد في شهر ماي من السنة الجارية وهو ما أثر على أسعار السلع ووفرتها داخل الأسواق في السنوات الأخيرة ، وفي تقرير أصدره البنك الدولي في مطلع شهر ماي الفارط والذي اكد من خلاله أن تباطؤ النمو يضاعف من التحديات التي تواجهها تونس في تغطية احتياجاتها الكبيرة من التمويل الخارجي على الرغم من تحسن التوازنات الخارجية خصوصاً في غياب برنامج إصلاحات وخارطة طريق اقتصادية واضحة.
وذكر البنك الدولي أن العجز التجاري في تونس تحسن في عام 2023 بفضل التغيرات المناسبة للأسعار الدولية، حيث انخفض إلى 10.8% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 17.5% في عام 2022، بينما اتسع العجز في تجارة الطاقة على الرغم من التطور الملائم للأسعار، وظل يمثل الجزء الأكبر من العجز التجاري.
كما افاد البنك الدولي إن تحسن العجز التجاري وانتعاش الصادرات السياحية، أديا إلى خفض عجز الحساب الجاري في عام 2023، في حين أن انخفاض الدولار يخفف الضغط على احتياجات التمويل الخارجي الكبيرة، خاصة بسبب خدمة الديون الثقيلة.
هذا وقد اكدت وزيرة المالية سهام البوغديري أن تونس نجحت في سداد كل ديونها المحلية والخارجية لسنة 2023 وبداية سنة 2024 رغم الصعوبات التي تواجهها البلاد التونسية خصوصا وأنها ما زالت إلى حدّ الآن لم تقدم برنامجا بديلا للصندوق في علاقة بالحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار من جهة، وضعف الاستثمار الذي يقتصر على بعض مشاريع البنى التحتية التي تعد على أصابع اليد الواحدة.
من جهته اعتبر صندوق النقد الدولي أن “تونس من بين الدول التي نجحت في تحقيق نتائج إيجابية على المستوى الاقتصادي والمالي، رغم الصعوبات التي واجهتها والناتجة أساسا عن عوامل خارجية” وكانت مؤسسة كابيتال إيكونوميكس البحثية قالت في نهاية شهر نوفمبر الماضي إنه “من المرجح أن تتخلف تونس عن سداد ديون سيادية في ظل استحقاقات الدين العام الكبيرة المرتقبة للبلاد”.
ما هو ثابت ان الديون التي حلّ أجلها هي جزء بسيط من الدين العام حيث أظهرت وثيقة رسمية أن تونس ستسدد 4 مليارات دولار من الديون الخارجية في 2024، بزيادة 40% عن 2023، وسط ندرة التمويل الخارجي الذي تحصل عليه الحكومة تمكنت تونس حتى شهر جوان الجاري سداد سندات خارجية بقيمة 850 مليون يورو، أي حوالي 915.28 مليون دولار، حسبما أظهرت أرقام البنك المركزي التونسي.
البعض ذهب الى إمكانية الاستنجاد بأطراف إقليمية مثل الجزائر والسعودية والاتحاد الأوروبي لتقديم قروض تساعدها على سداد ديونها وهو ما تم بالفعل بعد إعلان البنك الدولي موافقته في مارس الماضي على قرضين لتونس بقيمة 520 مليون دولار لمساعدتها على مواجهة التحدي الخاص بالأمن الغذائي وتحقيق التوازن في التفاوتات الاقتصادية بين المناطق من خلال تحسين ربط الطرق.
وتبلغ قيمة القرض الأول 300 مليون دولار ويأتي مكملاً لمشروع الاستجابة الطارئة للأمن الغذائي الذي سيساعد على مواجهة آثار أربع سنوات متتالية من الجفاف في البلاد، في حين ان قيمة القرض الثاني تبلغ حوالي 220 مليون دولار وتهدف إلى تقليص التفاوتات الاقتصادية بين المناطق على طول محور القصرين – سيدي بوزيد – صفاقس، من خلال تطوير البنية التحتية لهذا المحور، وتحسين فرص حصول المؤسسات الصغرى والمتوسطة في المنطقة على التمويلات اللازمة لممارسة انشطتها.
كما أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في شهر مارس المنقضي أن الاتحاد الأوروبي صرف 150 مليون يورو لتونس، دعماً للميزانية، بهدف تحقيق الاستقرار المالي والإصلاحات الاقتصادية.
ويعتزم الاتحاد الأوروبي تقديم مبلغ 164.5 مليون يورو (178 مليون دولار) على مدى ثلاث سنوات لقوات الأمن التونسية، للتعامل مع ملف الهجرة، بحسب ما نقلته صحيفة ” الفاينانسل تايمز” بالإضافة الى تعهد الاتحاد الأوروبي تقديم 105 ملايين يورو من التمويل المتعلق بالهجرة لتونس في اتفاق تم توقيعه العام الماضي، ولم يتم صرف معظمه بعد. وتتوقع الوكالة استمرار مستوى مماثل من المساعدة المالية من شركاء تونس الثنائيين ومتعددي الأطراف حتى بدون برنامج من صندوق النقد الدولي، كما تتوقع الوكالة أن ستستمر احتياطيات تونس في توفير تغطية للواردات لمدة 3 أشهر على الأقل بحلول نهاية عام 2024، رغم التوقعات بأن تخضع لسحب محتمل.
قروض خارجية لسداد الدين الخارجي؟
عمليا يتم سداد الدين عن طريق القروض وهذا لن يزيد الا الطين بلة فسداد هذه القروض لن يكون ذات جدوى الا إذا مرعبر الناتج الفائض من الاستثمار وهذا لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع في الوقت الحالي في ظل ندرة المشاريع الكبرى التي من شأنها دفع عجلة التنمية الاقتصادية وفتح الأبواب أمام المستثمرين في الخارج وتفعيل الصلح الجزائي مع رجال الأعمال، مع توفير الأطر القانونية لذلك.
ما نشاهده في الآونة الاخيرة في مواجهة سداد التمويل الخارجي هو اعتماد تونس بشكل متزايد على البنوك المحلية من خلال التجائها الى البنك المركزي لتمويل ميزانيتها، وفق تقرير البنك الدولي، مما أدى إلى زيادة مواطن الضعف في النظام المالي، ومزاحمة الحكومة للقطاع الخاص على الاقتراض من البنوك.
هل صندوق النقد الدولي هو الحل؟
توصل صندوق النقد الدولي إلى اتفاق مع السلطات التونسية في شهر أكتوبر من سنة 2022 من أجل التعاون في تنفيذ برنامج للإصلاح الاقتصادي عبر ترتيب مدته 48 شهراً في إطار “تسهيل الصندوق الممدد” (EFF) بقيمة بلغت حوالي 1.9 مليار دولار لكن الصندوق لم يقر البرنامج منذ أكثر من عامين وهو ما تزامن مع إعلان الرئيس قيس سعيد رفض ما وصفه بشروط الصندوق في مناسبات عدة، مشيراً إلى أنها قد تهدد السلم الاجتماعي.
ما هو مؤكد ان كل الدول التي التجأت الى الاقتراض من صندوق النقد الدولي انتهى بها الأمر الى انهيار اقتصادي رهيب ولنا في ذلك العديد من الأمثلة لعل أبرزها دولة زنبيا التي تحصلت على قرض من صندوق النقد الدولي مقابل مطالبتها بإلغاء الأداءات الجمركية للمواد الغذائية التي كانت زنبيا تحقق اكتفائها الذاتي فيه وهو ما ادى الى إغراق السوق الزنبية بالمنتجات الأوروبية وبالتالي انهيار أمنها الغذائي.
البيرو التي كانت زراعة القمح فيها أهم الزراعات فرض عليها استيراد القمح الأمريكي ليضطر المزارع البيروفي الالتجاء لزراعة المواد المخدرة وتصبح رائدة في هذا المجال.
الأرجنتين التي كانت من أهم الاقتصادات بعد الحرب العالمية الثانية دخلت في صراعات سياسية بين قيادييها أدخلتها في أزمة اقتصادية خانقة اعتمدت على صندوق النقد الدولي في مجابهتها مما أدى الى إعلان إفلاس الدولة وشلل اقتصادي متواصل حتى يومنا هذا.
في حين ان الدول التي التجأت الى حلول أخرى تمكنت من تجاوز صعوبتها الاقتصادية بل وأدركت بعد ذلك مصاف الدول المتقدمة ولكم في ماليزيا أبلغ الأمثلة بعد ان اشتدت أزمتها الاقتصادية نهاية التسعينيات ورفضت الحكومة الماليزية الالتجاء لصندوق النقد الدولي وعولت على دعم قطاعي الفلاحة والصناعة لتجاوز أزمتها وهو ما نجحت في إدراكه.
صندوق النقد الدولي هو ذراع الرأسمالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تحكم من خلاله قبضتها على كافة دول العالم التي تعاني من صعوبات اقتصادية عبر آلية قرصنة أسواقها من خلال إلزام الدول التي تعاني صعوبات اقتصادية بسياسات تقشفية ثم رفع الدعم على المواد الغذائية والمحروقات وعديد المجالات الأخرى، ثم خوصصة المؤسسات العمومية مرورا بتحرير الأسواق للمنتجات الخارجية ومن ثمّ يتمّ الاستيلاء على مواردها وأسواقها بعد استحالة القدرة على سداد ديونها من خلال حزمة من الشروط التي تبدو في ظاهرها إصلاحات وفي باطنها دراسات تثبت بشكل مؤكد للجهات المانحة عدم قدرة هذه الدول على سداد ديونها و تعلن بشكل مباشر هيمنة الشركات العملاقة الغربية على الأسواق الداخلية وموارد هذه الدول لتبلغ في النهاية القدرة في التحكم في القرار السياسي لهذه الدول.
خبير مالي و محلل اقتصادي.