إن تقدم الدول لا يُقاس باستدعاء فنان ليهز الخصور فقط ويربح الملايين، بل إن التقدم يقاس بما اكتسبه أهل البلد من علوم وتقنيات حديثة لمنافسة الدول الآخذة في الصعود، أم ارتضينا نحن العرب أن نكون دائما في مؤخرة الأمم، ولا يحق لنا أن نفخر بشبابنا وبناتنا الذين حققوا النجاح الباهر والمستوى الرفيع.
فوزي بن يونس بن حديد
في الوقت الذي تعيش فيه تونس أزمة اقتصادية خانقة وأزمة اجتماعية متنامية، نتيجة التقلبات السياسية وغلاء الأسعار وتفشي البطالة بين الشباب ووطأة الديون الداخلية والخارجية على ميزانية الدولة، وخروج تونس عن قطار الدول الآمنة اقتصاديا، ترد أخبار معاكسة تصيبك باليأس والإحباط فيما تقوم به بلادنا هذه الأيام رغم جرح وآلام الفلسطينيين في غزة أيضا، فلقد استدعت الفنان اللبناني راغب علامة ليحيي حفلا جماهيريا بمسرح قرطاج الأثري و تستعد للاحتفالات الصاحبة للمهرجانات الصيفية في أسوأ مرحلة تمر بها البلاد، اعتبره البعض متنفسا للكروب التي يعيشها الشعب التونسي، بينما تذمر آخرون وما أكثرهم من مثل هذه التظاهرات التي لا تسمن ولا تغني من جوع بل ستزيد البلاد في وحل لا تخرج منها على المدى القريب.
فراغب علامة فنان يبحث عن مصلحته وإن تشدق بكلمات الحب لتونس الخضراء في تصريحاته أثناء قدومه أو على ركح مسرح قرطاج ولن يفيد الشعب التونسي في شيء سوى في هزّ الخصور لبضع ساعات في المسرح وبعدها تتوالى الخيبات وتبقى ذكريات ويرجع الشعب إلى همومه بعد أن صرفت الهيئات المديرة للمهرجانات المليارات في استدعاء أحد الفنانين الذين تسميهم كبارا بينما يرزح شبابها تحت وطأة البطالة وشعبها تحت وطأة قطع الكهرباء والمياه وهو مقبل على صيف حار ونهار طويل يتطلب الكثير من الطاقة للتكيف مع الحرارة الشديدة المتوقعة.
الشعب أولى بالمليارات
أليس الأجدر أن تصرف هذه الأموال في إصلاح الأعطاب والأضرار، فالشعب أولى من راغب علامة و غيره من الفنانين مهما علا شأنهم و ارتفعت شعبيتهم، والشعب أولى بهذه المليارات من أي برنامج ترفيهي في المرحلة الحالية التي اختنق فيها حدا أقصى؟
على المشرفين على المهرجانات أن يبحثوا عن الأولويات رغم أن ذلك ليس من مهماتهم، فمهمتهم ترفيه الشعب لكن لا يكون ذلك لفئة ميسورة على حساب طائفة كبيرة من الناس، فالكثير من العائلات التونسية من شمال تونس إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها لا تحظى برؤية راغب علامة و غيره من النجوم وليست لها الرغبة البتة في رؤيتهم، لأنها تدرك أن لقمة العيش هي الأولى، وأن ما يغنيه الفنان وما يطلقه من صيحات وإن كانت تستهوي البعض فإن الأكثرية لا يهمه ما يقدمه، لأن الفنانين على اختلاف مشاربهم وأطيافهم لا يقدمون إلا فنا وبضع كلمات ورقص هنا وهناك لتحريك المشاعر والقلوب، لا تؤثر على قضيتنا الأولى ولا قضية الشعب التونسي.
أليس الأجدر بوزارة الثقافة أن تتنبه لهذا الأمر؟ وأليس الأجدر بالحكومة التونسية أن تبحث عن وسائل جديدة ومبتكرة وتقنية لترفيه الشعب التونسي وتخليصه من الانقطاعات المتكررة والمتواصلة للكهرباء والمياه؟ أليس الأجدر بالحكومة التونسية أن تهتم بأوضاع الناس تحت وطأة حر الصيف حيث تقف الطوابير على طول كيلومترات للدخول إلى جزيرة جربة سواء كان من الساكنين أو من السائحين والزائرين لها؟ أليس الأجدر بالحكومة التونسية أن تصرف هذه الأموال على شبابها لتدريبهم وتعليمهم وتهيئتهم لسوق العمل بدلا من تركهم يخوضون أمواج البحر الأبيض المتوسط؟ وأليس الأجدر أن تهتم الحكومة التونسية بمجتهديها الطلبة الذين حققوا معدلات عالية في جميع التخصصات العلمية والفكرية بدلا من تضييع الوقت في البحث عن فنانين وفنانات عفى عليهم الزمان؟
عندما لا تهتم الدولة بشبابها
إن تقدم الدول لا يُقاس باستدعاء فنان ليهز الخصور فقط ويربح الملايين، بل إن التقدم يقاس بما اكتسبه أهل البلد من علوم وتقنيات حديثة لمنافسة الدول الآخذة في الصعود، أم ارتضينا نحن العرب أن نكون دائما في مؤخرة الأمم، ولا يحق لنا أن نفخر بشبابنا وبناتنا الذين حققوا النجاح الباهر والمستوى الرفيع، وعندما لا تهتم الدولة بشبابها، ستهتم بهم حتما بلاد أخرى تفقه جيدا معنى العلم ومعنى الإنسان المتعلم، فلا تضيع وقتها مع هذا الفنان أ و ذاك لأنها تعلم أن فنه مجرد نزوات بل تهتم باستغلال كل ثانية فيه من أجل اختراع واكتشاف يمكن أن يفيد البلد ويخرجها من أزماتها المتلاحقة.
من المهم جدا أن تهتم بلادنا تونس بالتعليم، من المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية، ومن الأهمّ أيضا أن تبحث عن أُطر لاحتواء الشباب بكافة مستوياتهم العلمية، فهم منارة المستقبل وهم من يحمل لواءها، لا الفنانون الذين يأتون من الخارج لينثروا كلمات العشق والحب في قلوب ملّت من الفقر والبطالة والتهميش ثم يرحلون بمليارات الشعب ويتركونه تحت وطأة مشاكل كثيرة لا تحل بسبب عجز كامل في الميزانية.