“ام البلدان” لحافظ خليفة وعزالدين المدني : سينوغرافيا رقمية في خدمة فنتازيا تاريخية

“أم البلدان” عمل مسرحي جديدة يضاف إلى سلسلة الأعمال التي كتبها عميد الكتابة المسرحية في تونس عزالدين المدني يستلهم منها التاريخ ويستقرىء الحاضر ويستشرف المستقبل قدمها المخرج حافظ خليفة يوم الإثنين 1 جويلية 2024 بقاعة الجهات بمدينة الثقافة بتونس العاصمة في رؤيته اخراجية فنية معاصرة وبلغة سينوغرافيا رقمية متطورة خرج بها عن المألوف عنه في جل أعماله المسرحية السابقة.

جمع حافظ خليفة في هذا العمل الجديد نجوم المسرح التونسي وخيرة شبابه أبهرت الحاضرين وأعادت إلى الأذهان زمن توهج المسرح ورقيه ونكاد نجزم أنها أول مسرحية بمثل هذه الفخامة تقدم بعد مسرحية “الرهيب” للمسرح الوطني من إخراج منير العرقي سنة 2013.

مسرحية “أم البلدان” هي عمل درامي مسرحي فرجوي اعتمد نصه بالأساس على فترة أبو زكريا الحفصي عندما أقام دولة الخلافة بتونس بعد سقوط بغداد على يد المغول ليجعل من تونس في زمنه دولة مستقلة و قطبا تجاريا و اقتصاديا و ملجأ كل الجاليات الأندلسية حيث قضى على الفتن وجالس العلماء والفقهاء وقربهم منه وكرم الأدباء فاستقرت أحوال دولته وعظم شأنها وذاع صيتها في شمال إفريقيا والأندلس. وإثر وفاته خلفه ابنه المستنصر بالله ولكنه لم يكن في مستوى خلافة والده وتدهورت أحوال البلاد بسرعة في عهده.

على امتداد ساعة وربع تقريبا سافر بنا حافظ خليفة في رحلة فنية إبداعية ملهمة من خلال فنتازيا تاريخية درامية كوريغرافية بعيدة كل البعد عن تأريخ الأحداث او الوقائع من خلال صور جمالية اعتمد فيها كل التعابير و التقنياتو الأساليب المبتدعة في فنون الفرجة.

اعتمد المخرج على مجموعة كبيرة من الممثلين المحترفين نجوم المسرح والدراما في تونس وهم عزيزة بولبيار وجلال السعدي ومحمد توفيق الخلفاوي ونور الدين العياري وعبد الرحمان محمود وجميلة كامارا ونزهة حسني وشهاب شبيل وكمال زهيو وآدم الجبالي وعبد القادر الدريدي وفاطمة الزهراء المرواني وعبد اللطيف بوعلاق وعبير بن صميدة وأحمد روين وشيماء السماري ومجدي محجوبي ومحمد يوسف وبن عزيز وسيف الدين الوجيهي .

اعتمد المخرج أيضا على سينوغرافيا تجمع بين الإنارة والصور الرقمية المبتكرة والتي تبث لأول مرة مما زادت في جمالية المشاهد أثناء الحوارات الثنائية والجماعية واللوحات الاستعراضية والاحتفالية و منها اللوحة الختامية.

الموسيقى مبتكرة و مميزة للدكتور رضا بن منصور تجمع بين الإيقاعات التراثية المعزوفة سواء منها المباشرة عن طريق الفنان إبراهيم بهلول أو المسجل وهي من الموروث الغنائي الموسيقي الشعبي المتداول.

الملابس مصممة من طرف الفنانة آمال الصغير وقد شكلت عاملًا بصريًا مهمًا في فهم تفاصيل الشخصيات وتنوعها فجاءت أشبه بلوحات فسيفسائية جميلة.

الكوريغرافيا أضفت حركاتها الإيقاعية تكاملا على مستوى المشاهد واللوحات وفهم تواتر و توتر الاحداث.

الإنارة لرمزي النبيلي جزء لا يتجزأ من نجاح أي عمل مسرحي او ملحمي لحافظ خليفة إذ اعتمد على التوزان بين المشاهد في توزيع الإنارة في الوسط وفي المناطق الجانبية اليمنى واليسرى وكذلك في أقصى خلفية الركح.

الكوريغرافيا لشيماء العوني التي قدمت مجموعتها الشبابية لوحات فنية بإيقات تونسية تؤكد تراثنا اللامادي في هذا المجال راسخ في القدم.

الصور الرقمية لنور جلولي شكلت مفاجأة العرض اذ قدم لوحات متعددة على خلفية الشاشة العملاقة منها بناء باب بحر وباب الخضراء وباب سعدون وسيدي محرز ومسجد القصبة ولوحة الخفافيش وعلم تونس في الخاتمة.

وفي الختام اعتمد المخرج في تقديمه لهذا العمل الفني التاريخي الكبير على اللعب بين الممثل و الشخصية وعلى عمق النص كفكرة وكطرح وكاستشراف للمستقبل وكنداء استغاثة من أجل الالتفاف حول تونس التي كانت بالأمس القريب مركزا للخلافة ومنارة إسلامية كبرى من الشرق إلى الغرب والدعوة إلى تجريم الإرهاب من اجل بناء لبنة أولى لدولة جديدة على الرغم من انعدام الخبرة السياسية في إدارة مقاليد الحكم ومن أجل أن تعود تونس كما كانت “أم البلدان”.

    error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.