لسنا مع الفوضى و لا مع المسّ بالقامات و لا مع تعابير الابتذال و لكننا نطالب بعدم تصيّد القضاء لكل شاردة و واردة ليصنع منها تهما عابرة للقانون و المنطق… كما نطالب السلطة بمنتهى الأدب بإعادة النظر في المرسوم 54 المعادي للحريات حتى يكون متلائما مع روح العصر و حافظا للديمقراطية و حق الاختلاف لا مدمرا لها.
بقلم أحمد الحباسي
يذكرنا السيد الرئيس في عدة مناسبات بتضحيات الشهداء و من بينهم شهداء واقعة 9 أفريل 1938 حين خرج الآلاف رافعين شعار “برلمان تونسي” صارخين بكل ما أوتوا من صوت و قوة مطالبين برحيل الحماية الفرنسية. هذا يعنى و يؤكد أن هذا الشعب قد طالب بالحرية و الكرامة الوطنية و بحرية التعبير منذ تلك الفترة و لم ينتظر ما يسمى بثورة 17 ديسمبر2010 – 14 جانفى 2011 لينادى بهذه المطالب و عليه فلا مجال أن يعتبر البعض أن حق هذا الشعب في حرية التعبير هو مستحدث أو خطأ في التعبير أو مطلب غير ضروري يمكن الاستغناء عنه كما أنه لم يعد مجال للشك في أن الغاية (أو إحدى الغايات غير المعلنة) من إحداث المرسوم عدد 54 لسنة 2022 هو الاستهداف المباشر و المقصود لحرية التعبير بما فيها ما يسمى بحق نقد الحاكم و المعارضة السلمية.
على السلطة الحالية في تونس أن تنظر لمسألة حرية التعبير من زاوية أخرى غير التي ترى بها الأمور حاليا لأنه من الظاهر أن تقف في منطقة تحجب عنها رؤية الأمور بشمولية و نقاء و أن الصورة التي تصلها مشوّشة خاصة و أنه ليس هناك عاقل يمكن أن يجزم بأن كل من ينتقدون السلطة بمختلف مؤسساتها هم من الأشرار أو العملاء أو المندسين أو المتأمرين أو الفاسدين أو من قوى الردة.
رفع القيود القسرية التي تضمنها المرسوم 54
الصوت الذي يطالب بحرية التعبير و مزيد توسيع رقعتها هو نفس الصوت الذي نادى لتاأمس ببرلمان تونسي و المواطن هو المواطن و المتظاهر هو المتظاهر و المطلب هو المطلب و لئن اختلفت التسميات مع اختلاف جوهري مهم أن الشعب قد اتجه بمطلبه لمستعمر غاشم حقود في حين أنه يتقدم بمطلبه اليوم إلى سلطة وطنية منتخبة أقسمت على احترام الدستور – سواء كان دستور 1959 او 2014 أو 2022 – الذي تضمن حقا صريحا إسمه حرية التعبير. فما الذي يمنع السلطة الحالية من النظر للمسألة من هذا المنظار و رفع كل القيود القسرية التي تضمنها المرسوم 54 و الذي باتت المطالب المتعددة بإلغائها تمثل عبء معتبرا و حملا ثقيلا لا مصلحة لاستمراره.
إن التمسك بالشدة و عدم التراجع ربما يكون مطلوبا في مساحات و مسائل أخرى و لكن التشبت بضرب الألسنة و كسر الأقلام بداعي الخوف على السلم الاجتماعية و تجنيب البلاد معارك هي في غنى عنها لا يمكن أن يكون مقبولا في المطلق و الحكمة المرجوة تقتضى أن يمسك الجميع العصا من النصف و أن يتم فقط الاحتكام إلى الضمير و مصلحة الوطن لا غير.
تجنيب البلاد محاكمات رأى و ضحايا جانبية
لا يمكن أن يقوم الحكم على الغلظة و العصا و الرفض و العناد كما لا يمكن لحرية التعبير أن تتحول إلى سلاح يوجه إلى صدر الوطن أو لمكتسبات تم الحصول عليها بالعرق و الدم و التضحيات و هنا لو صدقت النوايا فإنه من السهل الالتقاء على نفس الجسر و تجنيب البلاد محاكمات رأى و ضحايا جانبية ممثلة في هذه العائلات التي ساءت حالتها بسبب سجن أبنائها الذين ربما أفرطوا في استعمال حرية التعبير متأسّين بالدول المتقدمة التي لا يضيق فيها صدر الحاكم مهما تجاوزت الألفاظ و التعابير مقاييس الحوار.
لسنا مع الفوضى و لا مع المسّ بالقامات و لا مع تعابير الابتذال و لكننا نطالب بعدم تصيّد القضاء لكل شاردة و واردة ليصنع منها تهما عابرة للقانون و المنطق كما نطالب بمنتهى الأدب بإعادة النظر في هذا المرسوم حتى يكون متلائما مع روح العصر و حافظا للحريات لا مدمرا للعائلات.
كاتب و ناشط سياسي.